الصراعات الداخلية والتدويل القسري، سوريا نموذجاً

 

د. سميرة مبيض

22/01/2022

 يُلاحظ بشكل مُتفاقم العجز الذي تُظهره أطر الأمم المتحدة في

إمكانية تقديم حل مستدام يضمن الاستقرار في سوريا ولذلك أسباب وظيفية، بعيداً عن نظرية المؤامرة التي يميل كثيرون لتبنيها لسهولتها ولمواءمتها لبعض التيارات الأيديولوجية. لكن وفي واقع الأمر فان الأمم المتحدة، والتي تأسست منذ سبعة عقود ونيف، كان لها هدف الفصل في النزاعات بين الدول والعمل على صون السلم والأمن الدوليين بحسب ما تحدده بوضوح أهداف التأسيس وعليه فقد تشكلت الأجهزة الإدارية للأمم المتحدة وآليات تعاملها مع الدول وفق هذه الأهداف، في حين ان معظم الصراعات في العالم اليوم تندرج تحت بند الصراعات الداخلية، أي ضمن أُطر الدولة الواحدة وتحديداً بين حكومات شمولية على أسس أيديولوجية وبين مجموعات مسلحة تنجم عن استقطاب مقابل للحالة قمعية مما يجعل أدوات الأمم المتحدة غير فاعلة وكذلك قوانينها الدولية المُلزمة في حالات الحروب لحماية المدنيين والبنى التحتية الخدمية ومرافق الطبابة والمياه والطاقة والموارد الحيوية وسواها تظهر عاجزة عن فرض شرعيتها أو تطبيق عقوباتها.

ورغم ان الحراك الشعبي في عموم هذه الحالات هو حراك يبدأ بشكل مدني بمطالب محقة ومشروعة لتطوير المجتمع وتمكين الحقوق لكن أحد أدوات النظم القمعية هو تحويله لصراع مسلح يقصي التوجهات المدنية أو البناءة ويسهل بذلك وأد المطالب المُحقة وإعادة تقييد المُجتمع بعدة أطر شمولية بين السلطة الاستبدادية في الحكم وبين السلطات العسكرية التي ولدتها عبر الصراع والتي لا تقل استبداداً بكونها جزء من المنظومة بحد ذاتها، ولعل سوريا هي النموذج الأوضح اليوم عن هذه الديناميكية رغم أن السيناريو ذاته مكرر في كثير من دول العالم،  ذلك الواقع الكارثي يدفع ثمنه المدنيون حصرياً، بمقابل الأطراف المتصارعة.

لكن مساوئ هذا السيناريو لا تقتصر على إعادة توالد النظم القمعية وتناسخها بأبعاد أصغر، تمهيداً لإعادة تشكيل وتأهيل نفسها بصورة أكثر همجية، بل هو سبب مباشر للتدويل القسري لأي حراك شعبي داخلي. أمثلة كثيرة يمكن أن تُساق لإظهار هذا الواقع، فعندما ترتكب الحكومات انتهاكات بحق شعوبها يتم رفع شكاوى ضدها من دول أُخرى وتحرك هذه الدول يتم بناء على روابط أيديولوجية ومنفعية بالدرجة الأولى وليس سعياً لتحقيق مصالح شعب أو تحقيق مصالح إنسانية عامة. 

أي أنها روابط تجمع تيارات مُعارضة بحكومات دول خارجية تتحرك لدعمها من منطلق أيديولوجي ومنطلق مصلحي، دعم يسعى لتمكين التيار المعني ولزيادة تأثيره وتأثير هذه الدول في البلد المنكوب. يبرز الصراع السوري أيضاً كنموذج واضح لآلية التدويل القسري هذه والتي ترتبط بدورها لانتماءات أيديولوجية، فقد شهدنا سريعاً تأسيس أطر المُعارضة السورية من منطلق تقاسم الحصص بين الدول وفق الارتباط الأيديولوجي لهذه الدول بأطر المعارضة فكان لكل منها ذراع معارض تعقد له المؤتمرات من حين لآخر وتؤمن له الدعم وتطالب بحصته في العملية السياسية السورية لتضمن استمرارية وجود التيار المرتبط بها ومعه تأثيرها ومصالحها، ويتم عبر ذلك اقصاء أي صوت مستقل عن التوزع الأيديولوجي أو الانتماءات التابعة له. تم تحريك الصراع العسكري والفكري لعقد من الزمن وفق هذه الأسس المُنحرفة أساساً عن مطلب الثورة ووفق هذا المسار الذي يهدف لإعادة توزيع السلطة وليس لتغيير جذري في مسببات القمع والاستبداد. 

والجدير بالذكر أن هذا الاصطفاف وفق المحاور، ما بعد عام ٢٠١١ ، هو انعكاس للانتماءات في المجتمع السوري وفق الحقبة السابقة والتي اتسمت بالزبائنية وتقاسم المجتمع واصطفافات من خارج الحدود بحكم غياب النموذج الداخلي السوي لبناء الدولة والمجتمع والذي يُفترض أن ينطلق من واقع السوريين وثقافاتهم واحتياجاتهم. 

نقطة الضعف الأبرز اليوم هي في عدم وجود جهة رقابة داخلية في كافة الدول تمتلك شخصية اعتبارية معترف بشرعيتها لدى الأمم المتحدة لتستطيع ضبط انحراف الحكومات عن مسارها السوي، فبعد أن أصبحت كثير من الحكومات هي ذاتها مصدر خلل بالاستقرار والأمن المحلي والعالمي ومسبباً مباشراً للانتهاكات بحق المدنيين ومصدراً للفساد والتهرب من المحاسبة وقطباً لإنتاج الطرف والإرهاب بما يخدم بقاءها، وكذلك مصدراً للانتهاكات بحق البيئة والمحيط الحيوي للأرض بما تتبعه من سياسات اقتصادية وصناعية خاطئة تهدد عبرها الأمن الصحي والحيوي للبشرية والعالم، أصبح تقويم دورها الخدمي في تأمين الرفاهية للمواطنين وحقوقهم ضرورة. الانحراف الشاسع بين ما تأسس عليه مفهوم الدولة في التاريخ الإنساني، كعقد بين السلطة والمجتمع، وبين واقع ما يحصل في العالم اليوم هو انحراف شاسع يؤدي لفوضى تآكل ذاتي للحضارة الانسانية وبات من الواجب إيجاد جهات حكيمة تتبنى الأسس الإنسانية وتضمن تحقيق الدور الوظيفي لهذه الحكومات، واجب يجب أن يسعى اليه كل عاقل مهما كان المسار صعباً، فلم تبنى الحضارة الإنسانية الا بالعقلاء والا بالجهد الحثيث لآلاف السنين، فإما أن تغلب الهمجية واما أن تغلب العقلانية وعلى ذلك يعتمد مسار المستقبل الإنساني برمته.