التقاعد وعوامل غير قابلة للتعميم، حول الاحتجاجات المتعلقة بسن التقاعد في فرنسا

د. سميرة مبيض

31/01/2023

 

يعتبر تعديل القوانين أحد أهم عوامل مواكبة التغيرات القائمة في المُجتمعات وهو توجه فاعل في الدولة الفرنسية التي يعتبر الحراك المدني والنقابي والسياسي ضمنها أحد مقومات الحياة اليومية للمواطنين مُستنداً على المكتسبات التي حققها الشعب الفرنسي إبان ثورته وعلى التغيرات الجذرية التي لحقت بالحروب العالمية.

 

وفي هذا السياق يعتبر نظام الضمان الاجتماعي مجالاً واسعاً للنقاشات المُجتمعية والتجاذب بين الدولة والفعاليات المدنية والنقابية وغيرها وهو ما يشغل الفضاء العام في هذه المرحلة وبشكل خاص النقاش المتعلق بسن التقاعد، والذي تعتزم الحكومة الفرنسية رفعه، مُغطياً بشكل اعلامي على الأقل على مُتغيرات لا تقل أهمية في الحياة اليومية ومنها ارتفاع أسعار الطاقة والتي تسببت بدورها بارتفاع أسعار الخبز وغيره من المواد الغذائية بشكل لافت، وهي عوامل كان يمكن أن تتسبب باحتجاجات واسعة بدورها وبإضرابات متعددة على الأخص أن لا مواكبة لارتفاع هذه التكلفة اليومية مع دخل المواطنين.

 

لكن احتجاجات التقاعد احتلت المشهد الإعلامي لتمر في الحين ذاته تغييرات عديدة تجري دون اهتمام يذكر ومنها أيضاً تغييرات في ميزانية القوى المُسلحة والتي ازدادت بشكل لافت يدعو للاهتمام بمُسببات هذا الارتكاس فيما يخص تكريس ميزانيات عالية للتسليح على عكس ما كان سائداً لفترة قريبة من تخفيض الرأس مال البشري والمالي المخصص لهذا الإطار والاتجاه للتنمية في أطر أخرى ومسببات هذا التوجه التي قد لا تتعلق فقط بالحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا والمُستهلكة نظرياً للمخزون السابق من العتاد، بل هي ذات أبعاد سياسية واقتصادية وذات منعكسات اجتماعية لا تأخذ حقها بالنقاش المعمق في المجتمع الفرنسي. 

 

بالعودة الى احتجاجات التقاعد لكونها عنوان هذا المقال، فيدور الجدل العام حول العمر المحدد لإحالة الموظفين للتقاعد ولماهية الموارد المخصصة لهذه الفئة لضمان معيشتهم بعد خروجهم من اطار العمل النشط، وربما تكمن نقطة الضعف في هذا الطرح بكونها تطبق على الجميع في حين أن عامل انتهاء النشاط المهني هو عامل متغير بشكل لا يقبل الشك، فلا يمكن القول بأن العمر الانسب للتقاعد هو ذاته في أي مهنة فالتباين في نوعية المهن يجعل من المستبعد الوصول لما يكسب رضى جميع المهن حول سن تقاعد واحد معمم، كذلك التباين في طبيعة الافراد هو امر لا يمكن اغفاله فهناك فئات تكرس العمل كهدف أساسي ومستمر في الحياة وهناك من يفضل التقاعد المبكر والتفرغ لنمط حياة أقل انشغالاً ومسؤوليات، فهنا أيضاً يعتبر التعميم عاملاً غير منصف ويقلل من قيمة التنوع المجتمعي والفردي فالبعض يرى أساساً أن العمر المقترح حالياً للتقاعد هو عمر مبكر ويُخرج فئة كبيرة من الأشخاص عن دورهم في المجتمع وآخرون يرون أنه عمر متأخر ويستغل قدرات الانسان حتى عمر متأخر. وكلا الطرفين محقان فيما يتعلق بالدوافع التي تدفع كل فئة للتعبير عن قلقها ومخاوفها. 

 

عامل آخر يغيب عن النقاش الدائر اليوم وهو العامل الصحي والذي بات يأخذ حيزاً كبيراً في حياة الانسان بعد مرور الجائحة الوبائية كوفيد وهو عامل متباين بشدة أيضاً، ويرتبط بظروف العمل ونمطه وصحة الانسان وبعوامل محيطية وبيئية وبعوامل بيولوجية ووراثية وغير ذلك الكثير مما لا يقبل التعميم المطلق الذي شهدته الحقبات السابقة.

 

في هذه الأطر ربما ما يستحق النقاش اليوم هو عوامل الإحالة على التقاعد وليس سن التقاعد بحد ذاته فهو ليس مركز الخلل، هذه العوامل التي يمكن تحديدها وفق مؤشرات علمية تتعلق بطبيعة المهنة وبالحالة الصحية وبالدوافع الفردية وباحتياجات المؤسسات المعنية، وبتأهيل الكوادر الشابة وإمكانية شغر مكان المتقاعدين بالكفاءات الشابة وغير ذلك من العوامل التي تستحق التركيز أكثر من العمر الذي يحتل المفردات اليوم، مرة أخرى يبرز التعامل المبسط والمُعمم كعامل معيق للتقدم في حين تفرض العوامل المركبة ذاتها كحقيقة وواقع يتم التغافل عنه غالباً مما يؤخر تحقيق وتقديم الحلول المناسبة التي تمنح الأولوية لاحتياجات الانسان وازدهاره.  

 

ختاماً تبقى الإشادة بوجود فضاء مفتوح للنقاشات المجتمعية والسياسية ضرورة ، فهي أساس تقدم ونهوض الدول في أي مكان في العالم وفي كل مكان في العالم على حد سواء، فلا يمكن للعالم أن يتطور الا بشكل متناغم وطالما هناك دول تعاني من التجميد والتقهقر المتعمد والاغراق في الصراعات فمسار التقدم العالمي يلبث غير متوازن بل يحتاج لمنظور انساني لا يفرق بين اعراق وجنسيات ولغات وألوان وتقاليد بل يدفع بمرتكزات قائمة على احترام التنوع واصطفاء قيمه الغنية لما فيه خير الجميع، فعسى أن يكون ذلك مسار سياسات عالمية مستقبلية تحترم الحياة وترفع من شأنها في كل موقع من هذه الأرض.