المُظاهرات السورية بين التعبير عن القضية وإنتاج الحدث السياسي

د. سميرة مبيض

١٥ كانون الثاني ٢٠٢٣

 

ليست المُظاهرات في سوريا بالحدث البسيط، فلنذكر أن هذه الوسيلة للتعبير الجماعي ممنوعة في ظل الحكومات الشمولية أو أنها تُقابل بقمع شديد، لكنها وسيلة تعبير تحررت منذ بدأت الثورة في آذار من عام ٢٠١١ وثابر عليها السوريون الى هذا الحين وان اختلفت الأطر والوسائل لكنها استمرت كأداة لايصال الرسائل المتعلقة بمطالب المُتظاهرين وأُضيف لها مع الوقت وسائل التواصل الالكتروني والتي تؤدي جزءاً من المهمة التعبيرية لكن المُظاهرات استمرت، كانعكاس لرغبة السوريين بتحرير أصواتهم وكتاباتهم ولافتاتهم المرفوعة للإضاءة على قضية شعب منسية لعقود طويلة. ونراها اليوم ليس في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وحسب بل في جميع المناطق السورية وتتراوح مطالب الناس بين المعيشية والسياسية والحقوق الاجتماعية وتبقى ذات جذر واحد، النهوض بواقع السوريات والسوريين وببلادهم وتحقيق المساواة والعدالة والمواطنة الحقّة.

 

كان لهذه المُظاهرات طابع خاص في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فهي لطالما عكست أصوات مواطنين هُجروا من أراضيهم بعد تمسكهم بمطلب الحرية فلم تقتصر على المُطالبة بإسقاط النظام بل توجهت لنقد كافة الممارسات التي تتعارض مع طموحاتهم بما فيها فساد واقتتال الفصائل المُسلحة في مناطقهم، فساد الشخوص والأطر السياسية وتبعيتها، تغافل المجتمع الدولي عن تدهور الأحوال الإنسانية، تخلّي اهل البلد عن اخوتهم واهلهم، فكانت بمثابة الرسائل المحلية لكنها كانت أيضاً في كثير من الأحيان دافعاً لإنتاج الحدث السياسي وبالأخص عندما يمس الحدث بشكل مباشر تضحيات السوريين والتي لا تقدر بثمن. 

 

وهذا ما كان عليه الحال في المُظاهرات الأخيرة، فبعد تكشف المسار الساعي للتطبيع مع نظام الأسد، من قبل الحكومة التركية والمخاوف المشروعة من التحاق الاجسام السياسية التابعة لها بهذا المسار، جاءت المُظاهرات في الشمال السوري كرد سريع داعي للتمسك بالمكتسبات السورية على الأرض اليوم وبعدم التخلي عن ما يمكن تحقيقه لقاء مُقايضات سياسية تهدف لتنفيذ مصالح دول أخرى على حساب المصلحة السورية.

 

وتعتبر هذه المُظاهرات الأخيرة تحديداً مُنتجاً للحدث السياسي بكونها دافع مشروع لتغيير المسار السابق ولبدء مسار جديد متقدم رافع لحقوق السوريين، وعوضاً عن أن تتجاوب الاجسام السياسية مع مطالب أهل القضية نجدهم، كما هم، عكس عقارب الساعة.

 

فقد كان من المفروض أن يكون الائتلاف أول المناهضين والرافضين علناً وبقوة لطروحات الحكومة التركية، أو غيرها، والساعية للمصالحة مع من ارتكب بحق سوريا أعتى الانتهاكات وهجر أهلها من بيوتهم وأراضيهم وقطع ارزاقهم ولا زال يعيث فساداً وقمعاً بمن بقيوا في مناطق حكمه، أي أن يكون كما يُفترض بأي كيان سياسي يدعي تمثيل المعارضة السورية، سباقاً في وضع خطة تحرر القرار السوري من التبعية وتحوله لجسم سياسي ذو قرار مستقل معتمداً على صوت المتظاهرين ومطالبهم، لكن تصريحات أعضاء الائتلاف بهذا الشأن كانت خجولة مُخجلة اسوة بما شهدناه من ارتهان الصوت السوري لسنوات. 

 

ورغم عدم تبنيهم لموقف واضح، ويمكننا القول كذلك رغم ما ظهر من توافق ضمني مع المساعي التركية، لكن الائتلاف لم يتوانى من ايفاد من يشارك في المُظاهرات المُناهضة لهذه المساعي، ظناً منهم أن تضليل السوريين لا زال وارداً، لكنه لم يعد بوارد، فالبصيرة نعمة من فضائل الثورة السورية ولا خوف على من أبصر ولا ثمن للتضحيات التي قدمها أبناء سوريا لقاء الحرية المُستحقة لهم وللأجيال القادمة، فكان من البديهي ان يكون الرد كما رأيناه، توافقنا عليه أم اختلفنا يبقى نتاج تقاعس الائتلافيين عن واجبهم لسنوات طويلة.

 

لكن ولكي لا نكتفي بالرفض، علينا تقديم الحجة المنطقية في مكانها، نرفض أن يدعي تمثيل أصواتنا من لا يمتلك صوتاً حراً، فهل هم بقادرين على تحرير أصواتهم، من الأيديولوجيات، من التحزب، من التمترس القومي أو الديني، من التبعية والارتهان بكافة أشكاله ومسمياته، هل هم بقادرين على تبني منظور سوي لكل انسان مهما كان انتماؤه الثقافي، هل هم بقادرين على حفظ أمن وأمان كل سوري وسورية، الإجابة تحملها سنوات عشر ماضية ولن يختبرها المستقبل مجدداً، لذلك فقرار السوريين محق بنبذ ما مضى وبالسعي لبناء ما يحقق طموحاتهم المشروعة بغد أفضل ليس لسوريا وحسب بل للمنطقة برمتها لتعود لمكانتها المستحقة في ركب الإنسانية.