محاباة بين اجتماع هيئة التفاوض واجتماع منصة بمسمى "مدنية"

 

د. سميرة مبيض

 

٧ حزيران ٢٠٢٣

 

لا تزال القضية السورية كشعاع من نور تضيء الحقائق كيفما توجهت بوصلتها، وقد أضاءت طيلة الثلاث عشر عام المنصرمة على قضية المجتمع المدني، والذي عمل الحكم الشمولي على تقويض اركانه في سوريا وعلى ادراجه ضمن صفوف الحزب الحاكم بمسميات عدة وأما من نجى من السيطرة السياسية فقد تم تقيد عمله بأطر دينية تابعة بدورها للسلطة الحاكمة فلم يترك أي فضاء حر سوي سليم كافي لنهوض المجتمع أو لرسم بوصلة مصالحه وتطوره لعقود طويلة.

 

ومنذ بدأت الثورة السورية بدأ مصطلح المجتمع المدني متداولاً  على الصعيد السوري وترافق بإنشاء مئات، ان لم نقل آلاف المنظمات التي تندرج تحت هذا المسمى في دول اللجوء وفي الداخل السوري وسواها من دول العالم، ولبث موقع المجتمع المدني الناشئ مصدر تجاذب، بين الدول حيناً، رجال الأعمال حيناً آخر، وكذلك المنظمات الدولية ولم يسلم من تجاذبات سياسية للتيارات الأيديولوجية ذاتها التي هيمنت على العمل السياسي السوري، وأفشلته بالبراهين القاطعة، والتي عملت على انشاء منظمات مدنية تابعة لتوجهاتها لكن بلبوس اغاثي حيناً، نسوي حيناً آخر، ثقافي في حين ثالث، وها نحن اليوم على مفارق كشف كل ضرر واضرار لحق بالسوريين لإنقاذ هويتنا وأرضنا ومستقبل بلادنا من كوارث انتجها العقد المنصرم بكافة تشكيلاته وشخوصه. 

 

وفي السياق الحالي والذي تعمل ضمنه دول إقليمية على إعادة تدوير منظومة إجرامية تم اجراء اجتماعين تحت المسمى السوري أولهما لما يُعرف بهيئة التفاوض، والتي تضم عدة جهات مُعارضة ولا تضم مستقلين رغم ادعائها بغير ذلك، والتي فشلت منذ تأسيسها بقيادة المفاوضات بمسار ناجع  يحقق مصالح السوريين، وتتمسك هذه الهيئة اليوم بترديد مطالب عمرها يقارب ثماني سنوات بخطاب ببغائي يذكرنا بقضايا شعوب كثيرة تتردد ضمنها من نصف قرن أو أكثر أرقام قرارات دولية لم يتم تنفيذ أي منها في حين تستمر الشعوب بالنزيف تحت الصراعات وبفقدان الموارد والأرض وبتجميد التنمية وبزيادة وتيرة الكراهية بين البشر، وهو حال الشعب السوري اليوم أيضاً. فرغم وضوح رفض النظام لتنفيذ القرار ٢٢٥٤ والذي سيتيح لهذه الهيئة مشاركته بالسلطة لكنهم لا يتوانون عن التمسك بسراب سيقود بالنتيجة الى فقدان كل مكتسبات السوريين ان لم يتم ايقافهم عند حدهم ورفع الثقة عنهم، وهي غير موجودة أساساً، ومنع مساعيهم الذاهبة سواء الى إعادة التطبيع أو نحو القبول بهيمنة دول الجوار على الأراضي السورية وفقدان السيادة والأراضي لصالح التقسيم والاندثار.

 

وفي هذه الحالة كان يتوجب بالمجتمع المدني أن يكون صوتاً غير مُنساق، وأن يستحق فعلياً الدور السياسي بدعم رؤى سياسية مدنية تحقق مصالح السوريين كشرط أساسي وتتمسك بالحقائق والتحليل المنطقي لمآلات الكوارث في سوريا، وذلك لا يتحقق بالتأكيد عبر محاباة جهة سياسية فاشلة تتكثف فيها ايديولوجيات رديفة لمنظومة الأسد، جهة لم تستطع حماية السوريين في أي نقطة خارجة عن سيطرة النظام القديم، انما ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر بحالة الترهيب والترويع للآمنين وكانت تابعاً لجهات لا تمت بصلة لثقافة التعددية السورية وأدت الى اضعاف الصوت المعارض والثوري وحرف المطالب المُحقة للشعب السوري وكانت شريكاً عن عمد أو عن جهل بالحالة الكارثية التي تعم بسوريا اليوم.

 لكن شهدنا للأسف محاباة متبادلة بين البيان الذي صدر عن الاجتماع الهزيل لهيئة التفاوض في جنيف وبين انعقاد منصة بمسمى مدنية لمجموعة منظمات في باريس دُعيت اليها هذه الهيئة وتم تقديم تطمينات لعدم معارضة نهجها واختياراتها من قبل المعنيين بهذه المنصة وهي بالمناسبة لا تشكل الا نسبة ضئيلة للغاية بين مجموع المنظمات السورية التي تأسست خلال العقد المنصرم في العالم أجمع.

 

هذه المحاباة والتي تذهب بعكس أي اتجاه مدني سوي تضيء من جديد على ضرورة ضمان حياد المنظمات المدنية لترتبط بما يضمن فعلياً نهوض المجتمعات المحلية بأهلها، فهم من حملوا أعباء مطالبهم بالحرية أولاً وأخيراً، وأن تعمل ضد الاجرام من أي طرف كان، ولنا العبرة في فشل الحراك المدني في عدة مناطق من العالم حيث لم يبق له أي أثر يذكر لكونه سار بمعطيات بعيدة عن الواقع وعن ما يضمن الاستمرارية والاستقرار للشعوب المعنية، وفي الواقع اليوم لا يرغب أحد من السوريات والسوريين باستمرارية هذا التدهور في قضيتهم المُحقة بل يتوجب تبني مسار يضمن مصالحهم بضمانات لا رجوع فيها ولا ضعف في أركانها وذلك ما لا يمتلكه هذا التحالف الناشئ بين منصة بمسمى مدنية وهيئة التفاوض وهو بذلك لا يشكل مسار قادر على السير قدماً بالقضية السورية بأي شكل كان.

 

دوناً عن التباس دائم ومستمر في موضوع التمويل لهذه المنصة، ولسواها من عشرات منصات المجتمع المدني فهي ليست الوحيدة، والذي يعتمد هذه المرة ووفق تصريحات المعنيين على اشتراكات تدفعها المنظمات الممولة من جهات ما، جهات لن ترجح بالضرورة مصلحة الانسان السوري بل سترجح مصالح دولها وتياراتها السياسية وغيرها، أي أنه تمويل غير سوري دون تجميل المسميات ولا تأتي الإشارة لهذه الامر في وارد الذم أو المدح هنا بل في إطار تسمية الأمور بمسمياتها بوضوح بأقل تقدير. 

 

وهنا تجدر الإشارة الى وجود عدة أنماط لتمويل المنظمات المدنية في أحوال الدول المستقرة: التمويل من قبل الدولة والقطاع العام ومؤسساته، التمويل من القطاع الخاص، التمويل الذاتي عبر مشاريع انتاج مستدامة تصب في خدمة المنظمة والتمويل الخارجي ويقسم بدوره الى تمويل من قبل منظمات عالمية وفق قضايا محددة أو تمويل من قبل حكومات دول، فتمويل المنظمات المدنية أمر حيوي وأساسي ويجب أن يعرّف الإطار العام لهذه الآلية عبر الدستور ولا يبقى مغمغماً ضبابياً وهنا تبرز أهمية بناء الدستور السوري الجديد كخطوة أساسية لتمكين منظمات المجتمع المدني وفق أطر واضحة شفافة ورقابة عالية الجودة ودراسة وتقييم الأثر على المجتمع وتطوره واستقراره.

 

فختاماً اذاً، تبدو هذه المُحاباة بعيدة عن ما انتظره وينتظره السوريات والسوريون من أي جهة مدنية واجبها الوقوف مع صوت الناس وليس مع صوت من يعمل على سلب قرارهم واضعاف سيادتهم وحرف مطالبهم، فباتت هذه المنصة في صف هيئة التفاوض لا صلة لها بمصالح السوريات والسوريون بأقل توصيف ممكن لكلا الجهتين.