يتقارعون، والأكفان فارغة

د. سميرة مبيض 

١٦ نيسان، أبريل، ٢٠٢٣

 

لا بد أن مشهد الجُند يتقارعون على قميص يسوع، الابن البار للتراب السوري، هو أبلغ مشهد انساني على منظور الهمجية تجاه السلم والمُسالمين وعلى مسعاها عبر قرون للتغول على كل أثر للإنسانية، لذلك كان للقيامة رمزية قصوى في قدرة الحياة على الاستمرارية فمهما بلغت شدة وضراوة العدوانية فهي تخمد وتندثر أمام قدرة التجدد والتي تمتلكها الحياة وحدها والتي بها تنتصر. 

 

وها هو التراب السوري اليوم، قروناً بعد حدث القيامة، يستمر بمقارعة الهمجية وبالدفاع عن القيم الانسانية كعقيدة لبناء الحقبة الجديدة بعيداً عن التقهقر الذي ألمّ بهذه البلاد طويلاً وما ألحق بأهلها من هوان آن له ان يخمد ويندثر ايذاناً بمستقبل آمن وكريم لعموم الأجيال القادمة.

 

فما نشهده من قرعة لتقاسم الأراضي لسورية اليوم، بين أطراف صراع عسكري لم تتوانى عن توريد السلاح والفتنة والاقتتال ليس الا مساعي فاشلة لاقتسام ما لا يُقسم، فالهوية السورية الممتدة كنسيج واحد متنوع الثقافات تقوم على أساس تاريخي وجغرافي وحضاري واحد متجدد باستمرار وكل ما يذهب بغير هذا المفهوم غير قابل لتحقيق الاستقرار للسوريين ولا للمنطقة.

 

فما حدث مؤخراً في الشمال السوري، بين أحداث سليمانية وأحداث جنديريس، ليس الا مساعي القوى المهيمنة على شمال شرق سوريا من جهة وشمال غرب سوريا من جهة ثانية بالتوسع نحو الطرف المقابل، يتظاهر الطرفان بأن الشعب السوري غير موجود ويتعاملان من استراتيجية السيطرة على ساحة المعركة  مستخدمين في ذلك كافة الأدوات من ترهيب وبث فتنة وقصف ورد قصف وغير ذلك، ساعون في الحين ذاته الى المقايضة على هذه المناطق مع نظام سياسي ارتكب اعتى الجرائم بحق المُهجرين اليها، فلا هم بقادرين على ضمان الأمن والاستقرار ولا يدعون السوريين ليضطلعوا بشؤونهم في إدارة امورهم ومناطقهم وفي دعم استمرارية حراكهم السياسي منها. ليس الشمال السوري هو مجال التهديد الوحيد، بل تسعى اطراف صراع رديف على الحدود السورية الجنوبية بإشعال حرب هي الأخرى هدفها الرئيسي هو اجتياح الأراضي السورية من قبل دول الجوار تحت ذرائع عدّة تخدم هذا الهدف، ولا تتوانى هذه الأطراف عن استخدام كافة أدوات الحروب من ذات الاستراتيجية في السيطرة على ساحة المعركة، في ظل هذه التوجهات فان وجود متهم بجرائم حرب في سدة الحكم يناسب جميع هذه الأطراف، فلا هو بقادر على المطالبة بالسيادة ولا على حمل مسؤولية حياد سوريا بل على العكس هو مصدر لفرض العقوبات الاقتصادية السياسية على البلاد بحكم الجرائم المُتهم بها وأداة لتعزيز التقهقر والصراع في صفوف المجتمع وفي تدمير البنى التحتية بحكم تشبثه بالسلطة، وبالتالي فهو عنصر في معادلة الاقتراع والقسمة ولا انتهاء لهذه المعادلة الا بانتهاء هذه الأداة.

لم تدرك دول المنطقة بعد أن استقرار سوريا، وليس قسمتها، هو المسار الوحيد الذي سيفتح مجال الاستقرار الإقليمي، دوناً عن أن القسمة مستحيلة عملياً، لكن هذا النسيج الجامع لأطراف التاريخ والجغرافيا في المنطقة هو الأكثر متانة لحمل مهام السلام والحياد الثقافي والايديولوجي المفروض بالضرورة اليوم.    

 

في هذا الإطار يشكل الشمال السوري المساحة الممكنة لإطلاق عمل جدي في بناء دولة سوريا الحديثة، وذلك ما تسعى قوى الأمر الواقع لتعطيله بهدف تقاسم مصالحها المشتركة بالتوسع على الأراضي السورية، فالمسار اليوم ليس اختياري فعلياً بل هو مسار حتمي بتحييد هذه القوى  لصالح المصلحة السورية، فمن الحقوق الأساسية لأي مجموعة بشرية هو المُطالبة بأرض آمنة للعيش والازدهار والشعب السوري منذ عقود طويلة يتم تهجيره وابعاده عن أرضه وانتهاك حقه بالسكن والحياة المستقرة وبالتنمية، ويتم فرض قوى عسكرية لتهديد أمنه واستقراره وذلك سينعكس سوءاً على المنطقة والعالم أجمع، بحكم أن هذه المجريات تشرّع لاضطهاد الشعوب وتهجيرها وتروج لمبدأ اللامحاسبة بما يخالف وينقض كافة القوانين والمواثيق الدولية، على الأخص ان الشعب السوري رغم عقود الاضطهاد والشمولية حي وموجود ولم يزل ويطالب بتحقيق هويته القائمة على أرضه أسوة بشعوب الأرض قاطبة وها نحن اليوم في عصر تنهض به الأمم وصولاً للفضاء ومن غير المقبول أن تُضطهد شعوب في أرضها و تُمنع عنها نهضتها واستقرارها. أما القائمين على القرعة فلن يبقى لهم الا الأكفان فارغة لتذكرهم دوماً بأن الشعوب لا تموت ولا تُمحى ولا تنتهي بل هي حية بأهلها وبتاريخهم وحضارتهم وأرضهم وثقافاتهم، فعبثاً تقترعون وعبثاً مساعيكم للتوسع فلم يفرغ الا القبر، أما سوريا فبأبنائها وبناتها عامرة وحية وباقية.