التغيير عبر الدستور- د. سميرة مبيض

مساهمة الدكتورة سميرة مبيض في مبادرة اللجنة القانونية للقاء الوطني الديمقراطي في سوريا حول اللجنة الدستورية والدستور المزمع صياغته.

 22/2/2021


 

تسعى التيارات السياسية لتشكيل المجتمعات وفق منظورها الأيديولوجي وإعطاء الأولوية لما يراه الفكر السياسي السائد أفضلية أو طريقة نموذجية لبناء المجتمع، وبناء على هذا المنظور يضع النظام السياسي الذي يستلم دفة الحكم في أي دولة القانون المؤسس للدولة أي الدستور ليكون قاعدة رئيسية في بناء مؤسساتها وفي هيكلة النظم الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية والقضائية ضمنها وفي كيفية تقاسم السلطة وفي تسيير حياة المواطن وشؤونه العامة والخاصة فهو باختصار يحدد كيفية تشكيل المجتمع وإدارته وفق هذا المنظور.

بناء على هذه الخطوط العريضة يمكننا التمييز بين أنماط الحكم السائد في أي دولة في العالم وبناء على هذا المنظور يظهر جلياً ان أي تغيير في المجتمع، تقوده التيارات المهيمنة على الحكم فهو يرتبط بتثبيت وتطبيق رؤية المتنفذين ضمنها والتي يترجمها العقد الاجتماعي المُبرم بين السلطة والشعب وبين أفراد المجتمع فيما بينهم وبالتالي فان أي تغيير مأمول من شعوب تعاني من نظم شمولية قومية أو عسكرية أو دينية أو أيديولوجية سياسية بأي من مسمياتها سيمر حتماً عبر تغيير المنظور المؤسس لحالة القمع والمؤدي لانعدام العدل والأمان والاستقرار الازدهار نحو بناء دستور مؤسس ومنتج لحالة نقيضة وذلك ما هو عليه حال سوريا اليوم.

فالانتقال من حكم شمولي سخّر أدوات قمعية على كافة المحاور الممكنة، غير ممكن دون إعادة بناء القانون المؤسس للدولة أي دون إعادة بناء الدستور السوري وفق ما ينهي المنظومة المدمرة للمجتمع بأكملها ويؤسس لحالة نقيضة، من هذا المنظور تبدو الإجابة على الجملة المُكررة من قبل جهات سورية عديدة (هل نهض السوريون بثورة من أجل تغيير الدستور؟) إجابة بديهية، نعم من أهم أهداف الثورة السورية تغيير الدستور الشمولي وذلك لعدة أسباب أبسطها الثلاث نُقاط التالية:
– أن نظام الحكم الحالي شكل نفسه وقونن أدواته القمعية في السلطة عبر الدستور
– أن دستور سوريا في ظل نظم أيديولوجية وُضع لخدمة الأيديولوجيات القائمة وليس لخدمة أمن واستقرار الانسان السوري
– أن دستور سوريا لم يستطع حماية السوريات والسوريين من أي نوع من أنواع القمع المُمارس ضمن المجتمع

إذا فالحديث عن دستور سوري جديد في خضام الثورة السورية ليس رفاهية سياسية او فكرية بل هو في صلب مسار تحرر الشعب السوري أو بالأحرى في صلب استعادة الشعب السوري لحق تقرير المصير ولبناء دولة تنطلق من مصالح أبنائها ومن تحقيق استقرارهم المستدام وليس من منطلقات أخرى أدت للحالة الكارثية التي بها سوريا اليوم.
لا بد أن يكون لهذا الدستور صفة أساسية هو قدرته على تحقيق العدل والأمن للسوريين جميعهم، هذه الصفة الذي أثبت العقد المنصرم أن السوريين عاجزين عن تقديمها لبعضهم البعض، في ظل ارث قمعي سمته الصراعات البينية على كافة المحاور لا بد اذاً من قانون يعيد ضبط المجتمع على البناء وليس على الهدم، على العمل التشاركي وليس على السلطوية، على التقاسم وليس على الاحتكار، على الاحترام وليس على الكراهية، على الاحتواء وليس على النبذ، الدستور المُنقذ لشعب من الاندثار ولهوية من الزوال بالانتقال من الشمولية نحو التعددية.

لتحقيق مثل هذه المعايير يفترض وبوضوح تجنب الوقوع فيما أسست له الدساتير السابقة، على الأخص النقاط العلّام الموّلدة للحالة الشمولية والسلطوية ومنها نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
– انهاء حالة فرض هوية شمولية وإعادة تعريف مفهوم الهوية السورية التعددية وحمايته عبر الدستور بكونه قائم على مجموع الهويات الفرعية المتعددة أهمها الثقافات القومية، العربية، الكردية والسريانية والتركمانية والشركسية والارمنية وغيرها والثقافات الدينية، الإسلامية، المسيحية، اليهودية، اليزيدية إضافة الى بقية الشرائع والمناهج القيمية اللادينية وفق ما حمله تاريخ المنطقة من تتالي حضارات وثقافات انسانية حاضرة في سوريا لغاية اليوم وبما يحدده العامل المكاني من إطار وجود مشترك للسوريين وحماية التنوع اللغوي الناجم عنها وضمان حيادية الدولة تجاه كافة الأديان والقوميات.
– الانتقال من الحالة الشديدة المركزية في سوريا الى اعتماد اللامركزية كأساس لدستور بناء الدولة السورية الحديثة وكأساس لتقاسم السلطة والموارد بما يحقق العدالة لجميع السوريين.
– تخفيض صلاحيات منصب الرئاسة بمقابل زيادة صلاحيات البرلمانات، والعمل على تأسيس مجلس نيابي بغرفتين.
– فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يحقق التدافع المطلوب فيما بينها لخلق التوازن الذي يضمن مصالح المواطن السوري.
– إعادة رسم خارطة العلاقات مع دول المنطقة والعالم على أساس أولوية مصالح الشعب السوري.
– ضمان الحريات والحقوق بكافة الصعد وحمايتها بشكل فعلي.
– ضمان حماية التنوع الجندري وحقوق الطفل والفئات التي تحتاج للرعاية.
– ضمان تحقيق الازدهار والتنمية، وضمان استدامة المحيط البيئي.
– إعطاء الأولوية للتقدم العلمي والصحي والصناعي والاقتصادي وإعادة دور المؤسسات العسكرية والأمنية الى موقعها المنحصر بحماية المواطنين تحت رقابة البرلمان والقانون والمحاسبة وكذلك إعادة دور المؤسسات الدينية الى موقعها الطبيعي ضمن أطر الحريات الشخصية للأفراد وليس بالحياة العامة.

يمكننا الاختصار إذا أن الانتقال من نظام شمولي الى نقيضه يمر عبر الانتقال من دستور شمولي نحو دستور تعددي، يؤسس لبناء دولة تعترف بحقوق جميع أبنائها وتحميها، دولة تقوّم مساراً طويلاً من استخدام فرضيات ورؤى بعيدة عن واقع المجتمع السوري فبذلك فقط نضع العجلة على طريق صاعد مسلحة بأدوات التقدم والاستدامة وتحمل مسؤولية الأجيال القادمة.