حدود السلام الحيوي

الجزء الأول: تمهيد 

د. سميرة مبيض

 

الحدود عبر الزمن

 

لم يكن مفهوم الحدود المكانية مفهوماً ثابتاً عبر تاريخ الانسانية بل ارتبط بالاحتياجات الوظيفية التي لطالما لعبت دوراً هامة في المعايير التي يتم تبنيها من قبل المجموعات البشرية لترسيم ولتنظيم الحدود بين تجمعاتهم المختلفة هذه المعايير التي اتسمت بكونها ديناميكية ومتغيرة عبر التاريخ.

 

فبقراءة لهذا المفهوم في مسار البشرية والذي تمت دراسته وتحليله من قبل جُغرافيين ومؤرخين يتضح أن التفاعل بين حدود الإطار المكاني والمجتمعات له دلائل قائمة منذ العصر الحجري القديم كان معيارها الأساسي، عبر ما تم توصيفه من قبل الباحثين المختصين، بكونها تحدد مناطق تؤمن الاكتفاء من احتياجات البقاء لهذه المجموعات أي عبر الاستخدام الجماعي للأرض بما يؤمن العناصر الأساسية اللازمة لحياة المجموعة. 

 

كما أظهرت البحوث استخدام الانسان لعلامات ترسم حدوداً مكانية في فترات زمنية أكثر حداثة وضمن مجتمعات تعتمد على الصيد وجمع الثمار حيث تبين استخدام مثل هذه المجموعات لأوتاد لرسم الحدود بين المجموعات المتجاورة وفق بحوث العالمة مارلين باتو ماثيس المختصة بتاريخ الانسان.

 

كما أظهر باحثون جُغرافيون منهم پول غيشونيه وكلود رافيستان  أن مفهوم الحدود وُجد لدى عدد كبير من المجتمعات الإنسانية القديمة وكانت هذه الحدود ذات دور اجتماعي وكذلك لها أهمية ترتبط بمعتقدات روحية فهي بالتالي لعبت دور اجتماعي اقتصادي،  واجتماعي مرتبط بالمعتقدات قبل أن تصبح ذات دور تقني وفق الباحثين المختصين حيث أصبحت لاحقاً حدود صراعات بين الحضارات ومن ثم بات مفهوم الحدود مرتبطاً بمفهوم الدولة ويخضع لمفهوم السيادة في العصر الحديث للإنسانية.

ماذا عن المستقبل

ادراك هذا التطور الزمني للحدود المكانية يدفعنا اليوم للبحث في المسار المستقبلي لهذا المفهوم من منطلقات التحديات الحالية والتي ستتطلب الارتكاز بشكل صلب على العلم القادر على معالجتها وتقديم حلول لها ومنها العلوم البيئية والإنسانية والآليات الاقتصادية المرتبطة بهم والمنبثقة عنهم، العلوم الجغرافية والسكانية الاجتماعية والآليات العمرانية المرتبطة بهم والمنبثقة عنهم وغير ذلك من علوم ستشكل أرضية رئيسية لوضع المنظور الاستشرافي لمستقبل مفهوم الحدود المكانية والذي سيرتبط حتماً بمواجهة نتائج التغيرات المناخية وآثارها السلبية على حياة الانسانية وأمنها وكذلك سترتبط بتداعيات الجائحة الوبائية الناجمة عن كوفيد ١٩ ومتحوراته والتي ستستدعي إجراءات طويلة الأمد، إجراءات لها متطلباتها ولها تبعاتها وهذا ما سيتم تقديمه عبر سلسلة مقالات تهتم بهذه الأبعاد.

وفي هذا السياق لا بد من التأكيد أن التطور الطبيعي لمفهوم الحدود المكانية المستقبلي سيحترم متطلبات هذه التحديات ويستجيب لها بما يضمن استقرار الأمن البيئي والصحي في حقبة إنسانية انتقالية على درجة كبيرة من الأهمية  ترتبط بشكل جوهري بمرحلة العبور الطاقوي وبأدوات التطور التكنولوجي، عاملان رئيسيان سيعيدان رسم العلاقات والتفاعلات الحدودية على المستويين العالمي والإقليمي.

ولعل أهم النقاط التي ستتطلب التقويم من منظور احتياجات ومتطلبات المستقبل هو السلام الحيوي هذا المفهوم الذي أطرحه من موقعي كباحثة في العلوم البيئية والإنسانية بدءاٌ بهذه المقدمة التمهيدية ومتابعة عبر مقالات بحثية وعلمية وفكرية تفصيلية لاحقة 

 

السلام الحيوي

في ظل التغييرات المناخية التي تواجه العالم اليوم والتي استدعت اجتماع رؤساء العالم  في قمة استثنائية لوضع تصورات وحلول لمواجهة المرحلة القادمة وفي ظل تداعيات جائحة الكورونا سيكون البعد الحيوي ركناً أساسيا في أي عمليات سلام حدودية قادمة، يتضمن ذلك محاور عديدة متفرعة ومتشابكة من مفهوم أساسي حول توزع الموارد الأساسية للحياة وحفظ استدامتها وحسن استخدامها وأهمها تلك التي ستتأثر بشكل مباشر بالتغيرات المناخية ومنها:

-       مياه الشرب والري: ستكون الموارد المائية من أشد الموارد تأثراً بالتغيرات المناخية القادمة مع مظاهر الجفاف والاحتياجات الحيوية المرتبطة بمياه الشرب والري والخدمات والتي ستؤثر بشكل مباشر على العلاقات الحدودية وتتطلب إعادة النظر في النقاط الجغرافية التي تخلق صراعات حول المياه، وبشكل خاص كيفية انهاء حالة الاستقطاب والتسخير السياسي للموارد المائية وما تتضمنه من هيمنة وسوء استخدام والانتقال لمرحلة من التقاسم العادل والمساواة في التوزيع القائم على أسس علمية تحدد الاحتياجات وتتوزع ضمنها الموارد المائية بما يضمن استمرارية الحياة وبما يجنب استخدامها في غير سياقها البيئي الحيوي.

 

-       مصادر الطاقة: سيفرض الانتقال الطاقوي من الطاقة الأحفورية نحو الطاقة النظيفة قواعد جديدة للعلاقات السياسية والاقتصادية المرتبطة بها ويعيد توزع محاور التحالفات والقوى في العالم بناء على التموضعات الجديدة لمراكز الثقل ولصلاتها وتأثيرها وعليه فان التفاعلات الحدودية ستتأثر بدورها باحتياجات مرحلة العبور الطاقوي بما يضمن تيسير الوصول لحالة الاستقرار الجديدة وتأمين عادل للطاقة المستدامة بعيداً عن معادلة الاحتكار والحرمان.

 

-       المَواطن البيئية: تقدم مختلف المَواطن البيئية للإنسان خدمات حيوية أساسية لا تتشابه فيما بينها وتتكامل في نظم بيئية شديدة الترابط تشكل بدورها محيط حياة متوازن ضمن اطر مكانية تتضمن نشاطات المجموعات البشرية التي تقطنها بما يؤمن اكتفائها في جميع احتياجاتها، يؤدي تغيير نمط استخدام الترب أو تجزئة النظم البيئية المرتبطة بنشاطات المجموعات البشرية الى تغيير في المواطن البيئية وتفاعلاتها مما قد يؤدي الى خلل أو فقدان في الوظائف الهامة التي تقدمها هذه النظم للإنسان ان لم يؤخذ هذا التكامل الوظيفي بعين الاعتبار.

 

ختاماً لهذا التمهيد، وتمهيداً للإضاءات القادمة في هذا السياق لا بد من أن نضع منطقتنا اليوم تحت المجهر من منظور المستقبل البيئي والسلام الحيوي لها، ونطرح الأسئلة الأهم، ما الذي سنورثه لأبنائنا؟ ما الذي سنقدمه لنواجه مع الإنسانية التحديات القادمة؟ هل سيبقى مهيمناً في أرضنا نهج الموت ومحاربة الحياة؟ هل ستبقى مهيمنة في أرضنا أيادي التغوّل والتخريب والتدمير وليس الإنتاج والبناء؟ تبقى الإجابات، كما كانت دوماً، بيد الانسان العاقل وعسى أن تكون الأفعال كذلك في مستقبل الإنسانية فكفانا ما نحصده من تحكم يد الجهل والطمع والظلم والفساد والقسوة بمصير ومسير الحياة.