نحو دستور مدني لسوريا الحديثة

د. سميرة مبيض

 05/08/2021

بعد حقبة طويلة هيمنت فيها الحالة العسكرية والسلطات الأيديولوجية على مسار سوريا وبعد رصد النتاج الكارثي لهذه الحقبة والذي يمكن اختصاره بواقع الدمار المُجتمعي والتراجع الحضاري والانساني والاقتصادي والعلمي والتقني الذي تشهده البلاد اليوم، لا بد أن يتجه الوعي السليم موضوعياً لبناء مسار مستقبلي مُختلف قائم على الحالة المدنية الغير عسكرية والغير دينية والغير مؤدلجة، أي على بناء الحرية المسؤولة القادرة على حماية حقوق الفرد وبناء استقراره وضمان تنفيذ واجباته تجاه المصلحة العامة الجمعية وذلك عبر إعادة كل مفهوم لتوظيفه السليم في حياة الفرد والمجتمع بداية ومن ثم باستبعاد كافة المفاهيم ذات الأثر السلبي المؤدي لإنتاج التشدد ولظهور سلوكيات منحرفة تقود المجتمع نحو التدمير الذاتي كما هو الحال عليه اليوم في سوريا.

ورغم أن بناء دستور مدني سوري يواجه اليوم بتيارات مُضادة، يمثلها كلاً من النظام وجزء من المعارضة تسعى لإبقاء المنظومة الحالية قائمة وهي تتمثل بتيارات سياسية تحمل أيديولوجيات قومية عديدة الأوجه أو أخرى دينية سياسية، أو أيديولوجيات متعددة منها تحت شعارات الديمقراطية أو اليسارية الراديكالية أو الادعاءات الوطنية أو غيرها مما قد يظهر متحوراً عن ذات المنظومة الشمولية التي تسعى لهيمنة واسعة وصلاحيات غير محدودة للتحكم بالمدنيين من منطلق سلطوي قمعي، يبقى بمواجهة هذه التيارات حراك مدني واسع يُثبِتُ ويُثَبّتُ نفسه ضمن المجتمعات الساعية لإنهاء حقبة الظلم ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة برمتها، كما أثبت الحراك في تونس وفي لبنان وغيرهما.

يقع اليوم على عاتق هذه التيارات المدنية مسؤولية التأسيس لمسارات مستقبلية تسعى لبناء دول ومؤسسات واطر جديدة عبر بناء دستور مدني ركيزته الأساسية هي احترام الانسان الفرد وحماية حقوق المدنيين واستقرارهم وازدهارهم وأمنهم عبر القانون وبناء المجتمع السوي القائم على هذه الركائز. ورغم كون هذه القوى محمية غالباً بالسلاح واستخدام العنف أو بالفساد وبأدوات الفتنة أو باتباع الباطنية والنفاق وبتهربها من المحاسبة والقانون وغير ذلك من أدوات مكنتها من الهيمنة وسلب حرية المدنيين لعقود طويلة لكن نتاجها الكارثي اولاً ومسار البشرية السائر في مرحلة انتقالية تطورية متسارعة ثانياً يجعل من التغيير مسار حتمي.

من هذا المنطلق يعتبر الدستور المدني اليوم ضرورة، بالانطلاق من بناء مجتمع لا يتبنى ولا يعتمد العنف والهمجية بمختلف أشكالها، أي نقيض ما سبق والسلاح الوحيد في هذه الحالة هو القانون وفق دستور داعم للمجتمع المدني والذي يتضمن توجهات تصب في هذا الاتجاه ومنها يمكننا ايراد بعض النقاط فيما يلي:

-          سردية مشتركة تُكتب من منظور المتضررين من الحقبة السابقة وليس من منظور المتصارعين على تقاسم السلطة وفق نفس المفاهيم القمعية السابقة.

-          اختيار نظام الحكم وشكل الدولة وحدودها الأكفأ لضمان التنمية المتكافئة وحماية المواطنين من أي حالة قمعية وسلطوية والذي يسمح بنشوء تشاركية بالسلطة تتضمن مشاركة جميع الأفراد بآلية اتخاذ القرار الموافق لمصالحهم وليس لمصالح أي تيارات سياسية.

-          اعتماد أسس وجود منظومة عسكرية أو أمنية كأداة بيد المجتمع المدني المحلي لحماية أمنه الداخلي واستقراره بعيداً عن مفهوم هذه المؤسسات في النظم الشمولية ودورها كمؤسسات توسعية لخدمة السلطة الحاكمة.

-          وضع بنود دستورية للتأسيس ولمأسسة ولتمكين دور المنظمات المدنية مستقبلاً بما يضمن حيادية واستقلالية عملها واستمرارية فاعليتها من منطلق المصلحة الجمعية.

-          اعتماد بنود لتشكيل الأحزاب بما يمنع انحرافها نحو توجهات متشددة او استبدادية وشمولية أو تحت أي مسميات أثبتت فشلها الذريع ببناء مجتمع متوازن ومستقر.

-          اعتماد أسس المساواة الجندرية من منظور احترام الانسان السوي المتساوي كوحدة البناء الأولى للمجتمع وليس بشعارات المساواة الجندرية كأداة ترويج لبعض التيارات السياسية المُبرمجة على المنظومة الشمولية والمُناقضة في ممارساتها لهذه المبادئ.

-          اعتماد الأسس التعليمية من منطلق بناء جيل متمكن من الأدوات المعرفية الحديثة بعيداً عن التلوث الفكري المرتبط بإيديولوجيات تحول الأفراد لقطيع لخدمتها عوضاً عن دوره الطبيعي كجزء من المجتمع والإنسانية.

-          اعتماد وتمكين الأسس الاقتصادية في الدستور بما يضمن تكافؤ الفرص وبما يمنع نشوء الشبكات الزبائنية التابعة للسلطة ويمنع انتشار الفساد.

-          اعتماد أسس ضمان الأمن الصحي في الدستور بما يمكنه مواجهة التحديات القادمة على صعيد الأوبئة.

-          اعتماد أسس ضمان الامن البيئي في الدستور بما يمكنه ضمان السلام الحيوي والمستدام ومواجهة التحديات القادمة على الصعيد المناخي والبيئي والطاقوي ومن منطلق تغيير المنظور العام لتفاعل الانسان مع محيطه وموقعه ضمنه.

 

هذه الأسس وغيرها من مبادئ وبنود دستورية تهدف بشكل رئيسي لبناء دولة مدنية أي تضع نصب أعين اللجنة المعنية بالصياغة المجتمع المدني كهدف لهذا الدستور، وتعتبره المسار الآمن للسوريين لحماية مستقبلهم وأجيالهم القادمة من استمرارية هذا التدهور الغير منتهي، يزيد في قوة هذا التوجه فشل امكانية تدوير المنظومة السابقة في تحقيق أي تغيير مأمول، تونس مثالاً، لبنان شاهداً، وسوريا نموذج ضريح جماعي لهذه المنظومة التي قامت على تحويل هذه البلاد لمزارع للطغاة ومكب للتطرف وبؤرة لعدم احترام القانون، فلا دافع للتغير أهم من هذه جميعها.