دول الخليج وايران ومشهد احتلال جديد لسوريا

31/03/2022

د. سميرة مبيّض

 

الامارات تعيد تأهيل الأسد لتتمركز في مناطق سيطرته، السعودية عينها على الجنوب السوري

وقطر تسعى للهيمنة على الشمال السوري لتحل مكان تركيا فيه. هذا هو المشهد اليوم، فلماذا تتمدد دول الخليج على سوريا ولماذا تدفع بعض محاور الصراع الدولية بهذا السيناريو؟

لا يخفى على أحد اليوم المساعي التي تدفع لوضع سوريا تحت وصاية خليجية متعددة الأطراف، وربما يعتبر البعض هذه الوصاية اقتصادية بالدرجة الأولى تمهيداً لأن تضطلع هذه الأطراف بعملية إعادة الاعمار، لكنها قراءة سطحية بالمطلق فوضع سوريا تحت تبعية الخليج وكملحق لسياساته لا يختلف عما تم قبل قرن من الزمن عند تأسيس الدولة السورية والحاقها بمنظومة الحكم في المنطقة العربية وتصنيع أطر سياسية توافق هذه الوصايات وتتواءم مع التيارات الأيديولوجية السائدة عالمياً في تلك الحقبة وتتناقض مع واقع الشعب السوري وهويته ومصالحه وهي تيارات تسعى للاستمرارية اليوم وترفض ولادة منظور جديد تعددي للمنطقة.

فاليوم، وبعد قرن من فشل المنظومة القائمة، تُعاود محاور دولية الكرّة في محاولات اخضاع الشعب السوري لدول لا تمت له ولهويته بِصِلة، وعوضاً عن أن تكون سوريا منعكساً لتنوع شعوب وثقافات المنطقة الحضارية ولتساهم في نهضتها ونهضة الانسانية يتم العمل على قمقمتها من جديد في تقسيمات تضعها تحت وصاية هذه الدول التي تعمل على وضع مرتكزات لامتدادها السياسي المؤدلج والثقافي الغريب عن الثقافة السورية، وليس في ذلك انتقاص من ثقافات هذه الدول فهي جزء من ثقافات المنطقة ولها تاريخها وعوامل نشؤها ونحترمها في أرضها لكن لا امتداد لها في سوريا فلسوريين هوية تعددية موروثة من تاريخهم وهذا التمدد اليوم لا يوصف الا بالاحتلال مهما كانت ادعاءات مسمياته الأخرى.


ولكن ذلك يستحق الإضاءة بشدة على مسببات هذه المساعي، وهنا يمكن الإشارة لعدة محاور ليست حصرية انما هي مفاتيح لمفاهيم أوسع تستحق مزيداً من التعمق لاحقاً:


• الانتقال الطاقوي: تُعد انتهاء مرحلة الاثراء النفطي أحد أهم مسببات سعي هذه الدول للتمدد الجغرافي في سوريا سعياً لوضع يدها على المجالات الاقتصادية الحديثة التي ستشكل سوريا جزءاً أساسياً منها مستقبلاً بحكم موقعها الجغرافي وانفتاحها على المتوسط ومنه على الأطلسي. رغم أن الثروات النفطية التي حصدتها هذه الدول على مدى عقود كافية وتزيد لكنها تأبى الا أن تتمدد للهيمنة على أي تقدم ونهوض قد يولد في سوريا مستقبلاً. وكأن الشعب السوري لا يستحق نهضة مستقلة حرة متكاملة، بل تُفرض عليه النظم القمعية بالتتالي وكأنهم على طابور يقفون بالمرصاد فلا نكاد ننتهي من احدهم ليقفز توأمه ليحل مكانه.


• ارتفاع درجات حرارة المناخ: من أحد اهم أسباب التمدد نحو سوريا هو السعي للهيمنة على مناطق خصبة للزراعة وللمناطق المُتسمة بمناخ معتدل ولموارد حيوية عديدة ستكون مصدر صراعات مستقبلية نتيجة ارتفاع درجة حرارة المناخ والجفاف والكوارث البيئية المُرافقة له في المنطقة، تعد الهيمنة على ما تمتلكه سوريا مسعى لا يمكن اغفاله على الرغم من أن هذه الدول تعتبر من بين الدول التي ساهمت بشكل مباشر في زيادة غازات الاحتباس الحراري المُسببة لارتفاع درجات حرارة المناخ والتي عانى وسيعاني منها كثير من الشعوب لكن ذلك لا يثنيها عن محاولة التمدد للهيمنة على مستقبل الموارد السورية دون رادع من أي نوع.


• إيران: يُستخدم الوجود الإيراني والصراع بين الخليج وإيران كذريعة رئيسية لعملية الاجتياح السياسي لسوريا من قبل الطرفين، في حين تُظهر المساعي اليوم تقاسم المصالح القائم بين هذه الدول الثلاث في المناطق السورية، فالإمارات والسعودية وقطر تتبّع سياسات متفاوتة مع أو ضد إيران وما يجمعها من هدف هو انهاء سوريا وتمدد مقيت لهم على حساب أراضي سوريا وهويتها. في حين أن مصلحة الشعب السوري تقتضي تحييد سوريا عن كلا الطرفين، إيران والخليج، وانهاء الدور المفروض قسرياً على سوريا كملعب لصراعاتهم وعلى شبابها كوقود لحروبهم، في حين أن مكان هذه الحروب هو أراضي المُتنازعين وعواصمهم وليس مكانها دمشق وبيروت وبغداد والقدس وغيرها من مدن الشام.


• المنظومة القديمة: تشكل الحكومات القائمة في هذه الدول جزءاً من شبكة المنظومة القديمة التي تأسست بعد الحروب العالمية وبنتيجتها صُنّعت المنطقة كما هي عليه اليوم ونظام الأسد والنظام الإيراني جزء لا يتجزأ منها، وهي تقوم على الركائز القومية وتقاسم الثروات النفطية والامتدادات الخارجية كشبكات زبائنية للسياسات وللاقتصاد العالمي، هذه الركائز برمتها قيد التغيير في المنطقة والعالم اليوم وتعتبر مقاومة هذه النظم للتغيير في سوريا، رغم ادعاء بعضها عكس ذلك، تعتبر مقاومة لأي تغيير حتمي في عموم المنظومة وركائزها.


• وأد مفهوم التنوع والانفتاح الباني للاستقرار بمواجهة الكتل المغلقة الصماء المُتناحرة: تشكل بلاد الشام وحدة هوياتية منفصلة عن باقي دول المنطقة سِمتها الرئيسية التنوع بحيث لا يمكن احتواؤها من أي طرف إقليمي لأنها الأوسع هوياتياً بالطيف الثقافي القومي أو الديني أو بتعددية البنى المجتمعية واللغوية، وذلك ليس انتقاصاً من أي هوية أخرى لكنه نتيجة معرفية وعلمية تعكس طبيعة تاريخ الحضارات القائمة في المنطقة. واقع الشعب السوري المتنوع والذي تم اغفاله عمداً وقسراً بمعادلات التقسيم التي قامت بعد الحروب العالمية والتي تطلبت تهجيراً وترحيلاً من هنا وهناك لمحاولة فرض هوية واحدة، هو واقع لا زال حياً وفشل قرن من محاولات انهائه بالهمجية وها نحن اليوم أمام مساعِ قديمة متجددة تحت بند وصايات إقليمية متناقضة متنافرة فيما بينها والاهم انها غير متوائمة مع الهوية السورية ذاتها فهو صراع مستمر لن يحقق لهذه الدول الاستقرار ان دخلت أو بقيت في الأراضي السورية فهي لن تتعدى صفة الاحتلال الاقتصادي والثقافي.

 

لا بد لهذا الواقع اليوم أن يفرض على السوريين إعادة حسابات شاملة، فهل هناك سوري يقبل بقرن قادم من الوصاية واستمرارية اضعاف الهوية السورية، ولماذا علينا قبول هذا المسار المنحرف من أساسه، فنحن قدمنا للمنطقة مساهمات إنسانية رائدة ولم تقدم لنا أي من هذه الدول الا التخريب والتسليح وأدوات الموت، لا يغركم جناح في معرض لم يعرض فيه الا اليسير من إمكانات سوريا وسعى لإخماد اشعاعها الحضري العلمي الرائد على حساب ابراز دول أخرى بامتلاك التقانات وبالعلوم الحديثة وبامتلاك أدوات المستقبل. 

 

ختاماً، لا تحتاج بلادنا لأموال تقايض بها الهوية، فالموارد السورية ان كُرست لبناء البلد بعد انهاء منظومة الأسد الفاسدة والتخريبية فستكون أكثر من كافية لتحقيق نهضة كاملة دون ارتهان أراضي السوريين وكرامتهم لأي جهة، نحن ساعون لسوريا حيادية تجاه هذه الصراعات قوامها الندية وليس الوصاية وهدفها نواة استقرار في المنطقة وحليف لصناعة السلام في العالم، سلام حيوي مستدام وليس زيف وشعارات تخفي تحت عباءتها خناجر وبنادق وحجارة تُرجم بها الحياة