لننظر لمؤتمر أنطاليا، من الحدود الشمالية السورية.
د. سميرة مبيض
٨ آذار ٢٠٢٤
لا زال الشرق الأوسط، في سرائه وضرائه، يعتبر ساحة للسياسات العالمية، ولعل الربعية الأولى من هذا القرن شهدت ما لم تشهده المنطقة سابقاً من تغيير سريع في محاور الاصطفافات الإقليمية والعالمية، مما غير قواعد الحراك الديبلوماسي بشكل لافت وباتت بدورها موقعاً لتنافس مستتر حيناً ومعلنٍ في حين آخر بين دول المنطقة، على الأخص بعد بزوغ واستمرارية ثورات الشعوب، ناهضة ببناء صروح سياسات جديدة تضع قواعد الحقبة القادمة على كافة الصعد.
وفي ظل تراجع تأثير دور مؤسسات الأمم المتحدة في المنطقة، وهي التي كانت تحتكر الدور الديبلوماسي من عواصم العالم المختلفة، تسعى عديدٌ من دول الاقليم لملأ الفراغ والضلوع بهذه المهمة، ومن ضمن هذه المساعي على سبيل المثال لا الحصر ما عملت عليه الحكومة التركية منذ ثلاثة أعوام بإطلاق مؤتمر سنوي تحت مسمى الحراك الديبلوماسي في أنطاليا، والذي تحاول عبره اظهار أهلية للضلوع بدور في هذا السياق، لكن عوامل كثيرة تحول دون أن تكون لتركيا المقدرة على التفاعل الحيادي مع كافة قضايا المنطقة السياسية والإنسانية وذلك تبعاً لعوامل داخلية تتعلق بغياب حقوق عديد من المكونات الاثنية ضمن الدولة التركية، سواء الحقوق الثقافية، من اللغوية وغيرها، أو حقوق التمثيل السياسي الكاملة، إضافة الى عدم وجود مراجعة إنسانية وافية لتاريخ من المجازر والصراعات الاثنية وعدم الوقوف على مسبباتها وضمان عدم تكرارها بأي صورة كانت، لكن الأمر لا يقتصر على العوامل الداخلية وحسب، فتركيا اليوم تهيمن على أراضي الشمال السوري دون وجه حق، مستغلة وجود نظام حكم كاره للهوية والأرض السورية من حكومة ومعارضة معاً، غير قادران على حماية حق السوريين في أرضهم ومواردهم.
فلكل سوري اليوم الحق بنقض الموقف التركي الساعي لاحتكار مسمى ديبلوماسية الشرق الأوسط، لأن أصواتنا تطالب بأراضينا السورية كاملة دون انتقاص وبنقض أي موقف لا يحمل هذه الرسالة الواضحة، وليس ما سبق وحسب بل أن نبض زلزال الحدود السورية الشمالية سيبقى، يذكرنا بمن منع المساعدات عن سوريين وسوريات تحت الأنقاض، وصوت الأنهار في الحدود السورية الشمالية سيبقى يهدر بوجه التلوث المتعمد لمنابعها، كما أن الجدران الاسمنتية الدخيلة على الحدود السورية الشمالية، والتي تحاكي جدران المعتقلات وسجون النظام والمعارضة، كافية لنقض أي مسمى ديبلوماسية.
فالدور الديبلوماسي الإقليمي المنشود مستقبلاً لا يمكن حمله من أطراف لديها مواقف مُسبقة لا تتسم بالاعتدال تجاه اثنيات المنطقة وتنوعها، والحق يُقال بأن أياً من الحكومات التي تشكلت في القرن المنصرم في الشرق الأوسط، بايعازات من القوى العسكرية الخارجة من الحروب العالمية، لا تحقق إمكانية ضمان الأمن أو تنفيذ أي خطوات ديبلوماسية متقدمة، وذلك بحكم هيمنة أسس الصراعات القومية والدينية التي تقيّد السلوكيات السياسية لهذه النُظم، وذلك يمتد على الحكومات العربية والإيرانية وحتى على الأحزاب القومية الأخرى العاملة في هذه الدول كالأحزاب الكردية أو السريانية والقائمة بدورها على أساس قومي مناهض للثقافات المُغايرة وليس مكملاً لها.
لكن لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فحكومات هذه الدول، ودون استثناء، وقفت الى جانب من ارتكب انتهاكات بحق الشعب السوري وحاولت إعادة تدوير منظومة استخدمت أسلحة محرمة دولياً، وأنتجت تطرفاً عسكرياً ودينياً يعتبر الأسوأ في هذا العصر، بما نجم عنه من مجازر جماعية وتعذيب تم توثيقها وشهد عليها العالم أجمع، فكيف يمكن لأي جهة أن تثق بموقف متوازن لمن يدعم مثل هذه الانتهاكات لا بل ويصفق لها، وكيف ننظر لمؤتمر أنطاليا من منظور الحدود الشمالية السورية والتي تشهد باستمرار على زيف كلمات لا تطابق الأفعال، فللقضية السورية أثر لن يمحى بل هو يتعمق مُكرساً بناء المرحلة السياسية الجديدة في الشرق الأوسط، مرحلة تحمل ثورات الشعوب وتنهض بها نحو التطور، تحترم مكان النساء الرائد كما كان دوماً في بناء التحضر والحضارات المشرقية، تنبذ أدوات التطرف والتشدد ولا تستخدمها، فأما محاولات وأد هذا المستقبل فستبقى سراباً وليركض وراءه كل واهم.
فرافعة الديبلوماسية في المشرق القادم، هي المساحة والفضاء المشترك لعموم ثقافات المنطقة، وذلك هو الدور المأمول انطلاقه من الأقاليم الشمالية السورية لتحمل سوريا بمجمل أراضيها للتغيير المطلوب، ولتحييدها عن صراعات دينية وقومية لا صلة لها بهويتنا، هذا المسار تحديداً لن تقوم به تشكيلات وتيارات سياسية صُنعت بمسمى معارضة وساهمت بالانحدار والتقهقر، بل تبنيه عقول وأيدٍ متحررة من هذه الرواسب ومن مآلاتها.
لذلك واجبنا التمسك بحق السوريين والسوريات وبدور سوريا القادم دون تهاون، فلم يعد ذلك بمقتصر على سوريا بل هو وجه المشرق الجديد إما الى نهوض وتوازن وعدل ومواطنة متساوية، أو الى ما دون ذلك، ولا بد ان اختيار السوريين واضح بعد ثلاثة عشر عاماً من تضحيات لا تضاهى، أرضٌ كانت ولا زالت نموذج للرفعة الإنسانية، وما حقبة الهمجية التي ألمت بها إلا بمنتهية بإصرار بنيها وبناتها على التمسك بحق الوجود والحياة ولا يضاهيهما حق.