لا انسحاب من سوريا
د. سميرة مبيض
١٢ شباط ٢٠٢٤
الثابت اليوم هو تسارع التغيرات العالمية، تغيرات تطال كافة القوى والمؤسسات والتيارات والأقطاب السياسية القديمة، وفي خضام هذه التغيرات تظهر المناطق السورية كخط المواجهة الأول، بين منظومة بائدة متمثلة بالقمع والشمولية وإلغاء الهويات التعددية وبين الحاضر والمستقبل بما حمله وسيحمله من تمازج الحضارات في هذه المنطقة، وبالاستناد على المخزون المعرفي للإنسانية، يمكننا اليوم ودون تردد توجيه المستقبل نحو حفظ واحياء تنوع الهوية السورية، وفضاءها الحيوي الذي تتمسك جميع القوى العالمية بالبقاء ضمنه، فكلما لاحت بوادر انسحاب تتسارع تصريحات هنا وهناك بأن هذه الجهة أو تلك لا تنوي الانسحاب بل البقاء، فكيف لا ووجه المشرق حاضر كحجر زاوية في خرائط العالم الجديد.
لكن بمقابل هذا التمركز العسكري الدولي في الفضاء السوري تبرز كذلك معضلات عن ماهية تواجد هذه القوى وآثارها على تقدم المسارات في المنطقة والانحرافات الواجب تفاديها، فكما بات معلوماً اليوم أن أُسس المنظومة القديمة وُضعت بناء على سياسة تقييد الشعوب ومنع نهوضها وتقدمها لأسباب تتعلق بقراءات منحرفة لم ترَ، لأسباب مختلفة، التقدم الإنساني بكليّته بل سعت لحصره بفئة وبجزء من العالم ولربطه بالقدرات التدميرية والتسليحية والقمع وغيرها من سمات الحروب وما يتعلق بها، وعلى ذلك صُنّعت أنظمة الحكم حينها كمولد للصراع والأزمات في الشرق لتكون ذريعة للحكم اللاعقلاني واللامنطقي ومسبباً للتقهقر الدائم وذلك تحديداً ما ثَبُتَ خطأه في هذا العصر الحديث، وهو ما دفع بمسارات لا تعد ولا تحصى فردية، محلية وإقليمية ودولية للتدارك.
ولعل أهمها هي ثورات الشعوب بخلفياتها الثقافية المختلفة، فبات يمكننا الحديث اليوم عن ثورات شعوب المشرق، لتحتوي عموم الثورات الثقافية، اللغوية والمذهبية والثورات الحقوقية، السياسية والمواطنية والثورات المعرفية وغيرها ولتكون ركيزة للمشرق الجديد ولتودع للأبد قطبي النظم القمعية وهما العسكرة والتطرف الديني والتي لطالما استُخدمت كأدوات لمنع الثورات ولوأدها، ولطالما تعاونت فيما بينها ضد التنوع الإنساني بكافة اشكاله.
ولتتحول القضية المشرقية الى طيف من القضايا التي تحمل بدورها مفاهيم عالمية، وعلى رأسها قضايا الهويات التي تعبّر عن وجودها في هذه المساحة والى السؤال الأهم عن كيفية الوصول بها لبر الأمان عبر بناء الدول الحديثة الموائمة لهذا التعبير ولهذه الحقائق التي أغفلها العالم طويلاً، عن عمد أو عن جهل يبقى سواء، فتجاهلها بعد اليوم لم يعد بوارد.
وتبرز هنا معضلة التواجد العسكري المتفاقم لكافة الجهات الضليعة والمتدخلة، والذي بات مقلقاً في ظل غياب تفعيل رؤى سياسية ناجعة تبني للمستقبل المستقر، ولعل الهجمات على مراكز قوى التحالف في المنطقة والتي ازدادت وتيرتها وحدتها تعد مؤشراً هاماً الى أن الأولوية للمسارات السياسية، لتكون المسارات العسكرية داعماً لها وليس العكس، ولتكون دافعاً لمراجعة سياسات التحالف الدولي في المنطقة، فكما بدا جلياً فان سياسة الكتل الجغرافية المتنازعة ليست بمسار سوي لأي طرف، بل هي تنتج حالة اضطراب ذو منعكسات دولية غير محمودة، في حين أن بناء الوحدات الجغرافية المتكاملة حيوياً، ثقافياً واقتصادياً هو المسار المطلوب فعلياً، وذلك لن يتم بأدوات المنظومة القديمة بأي حال من الأحوال.
فهل تمتلك المؤسسات المعنية بالأمن العالمي القدرة على الاعتراف بمسارات خاطئة، والتخلي عن عنجهية السلاح والفساد السياسي والتي على مر عقود مرت لم تحقق الا التقهقر المحلي في هذه المنطقة وغيرها والتقهقر العالمي بالمآلات والاستقطابات الكارثية التي يشهد عليها حال النظم السياسية في أي مكان من العالم اليوم. فان لم تكن قراءة العلم الحديث هي السائدة، وان لم تكن أدواته هي محركات السياسات العالمية الحديثة فستبقى المؤسسات المُسماة ضليعة بالأمن العالمي بعيدة عن تحقيق حتى اليسير من أهدافها، وسيبقى الفشل لصيقاً بمسؤوليها كما هو اليوم، ولن يحتاج العالم طويلاً لينفك عن ارتباطات لم تفي بوعودها، فلم تكن الا رديفة للصراع وليست رديفة للحلول، وقد تتلخص المعادلة بكون الصراع مصدر استمرار هذه المؤسسات، وباتت ثقافة السلام هامشية لديها في ظل الاستنفاع، لكن ثمن هذه المعادلة المنحرفة باهظ انسانياً ولحسن الطالع أنه لم ولن يصمد امام رفع الغطاء عن غياب القيم وعدم الالتزام بالهدف الإنساني الثابت والواضح، وعليه فالمسار القادم مختلف والمؤشرات واضحة، والبوصلة أرض وثقافات وشعوب تحمّلت ماض مثقل بالانتهاكات وبقيت حية وناجية، وفي ذلك خطوات ثبات انساني اخذت مكانها ودورها الفاعل ولا تخلي عنهما.