نحو تبني سردية مشتركة لبناء دستور تأسيسي حديث للسوريين

08/06/2021د. سميرة مبيض

قرن مضى على تأسيس الدولة السورية بعد انتهاء الحروب العالمية، تأسيس اعتمد على تقاسم القوى المُنتصرة للنفوذ والمصالح وفرض سردية عامة للدستور التأسيسي السوري اعتمدت على نتائج الحروب والصراعات القائمة حينها بين نهاية الدولة العثمانية وانشاء دول تعتمد على توجهات قومية بحكم النظريات والتيارات السياسية التي سادت في تلك الحقبة.

هذه السردية التي بلغت مئة عام من العمر تبدو اليوم بعيدة جداً عن وجدان السوريين وعن واقعهم وتبدو عاجزة عن احتواء الحالة السورية التي استمرت في تقلقل وعدم استقرار داخلي واقليمي طيلة القرن المنصرم الى أن انفجرت في صراع دام عقدا ً من الزمن وأدى لكوارث إنسانية تعتبر من أقسى الكوارث في هذا العصر.

من أوضح النتائج الدالّة على فشل السردية التأسيسية للبنية السياسية والهوياتية التي سادت ضمن الدساتير السورية السابقة يمكننا ايراد النقاط التالية:

- عدم وجود هوية سورية جامعة اليوم، بعد مئة عام على انشاء الدولة السورية فشلت هذه الحالة التأسيسية في بناء هوية سورية واحدة بحكم اعتمادها على فرض هوية شمولية تبنت نظريات سياسية لم تنطلق من واقع الشعب السوري وأغفلت تنوع هويته وتعدديتها.

- من أجل تكريس الهوية الشمولية المُفترضة تم استخدام أدوات تعتمد بشكل رئيسي على حالة القمع وإلغاء الآخر وما ارتبط بها من عوامل تفرقة وفتنة في المجتمع وحالة تحريض بيني مستمرة فخُلقت عداوات عميقة في المجتمع السوري ومنها عداوات بين القوميات وعداوات بين الأديان ولكن أيضاً عداوات بين مختلف البنى المجتمعية من حضرية وريفية أو عشائرية أو غيرها، هذه العداوات نشأت وصُنعت لصالح بناء الهوية الشمولية المُفترضة. 

- اتضح خلال هذا العقد الأخير وبعد انطلاق الحراك السوري من أجل التغيير أن ما كان يظهر من غطاء سطحي من الأمان والاستقرار في سوريا كان سراباً ووهماً بينما في الواقع فقد ولّدت المنظومة القائمة على الحكم الشمولي ديناميكية داخلية تهدد باستمرار أمن المواطنين والمدنيين من خارج دائرة السلطة وذلك من أصغر مستويات المجتمع لأكبرها وأظهرت شهادات السوريين من جميع الفئات والأطياف أن المجتمع بأكمله تعرض لحالة اضطهاد مستمر لم تسلم منه أي شريحة.

- اتضح أيضاً خلال هذا العقد الأخير وبعد انطلاق الحراك السوري من أجل التغيير أن ما كان يظهر في المجتمع من حالة تعايش مشترك وتماسك هي حالة مصطنعة هشة ليس لها مرتكزات صلبة ولا عميقة، فشهدت السنوات العشر الأخيرة حالة تشرذم سريع وعميق على كافة المحاور المجتمعية ارتبطت بظهور خطاب كراهية متبادل وصراع مسلح وارتكاب مجازر، هذا الانقسام الهائل في المجتمع ليس وليد عدة سنوات حرب بل نتاج عقود من سياسة التفرقة والتحريض القائمة على فرض حالة شمولية، فما ظهر على السطح هو وضع المجتمع الحقيقي الذي نتج عن هذه السياسات وحسب من حال عدوانية متبادلة وسعي نحو الغاء المختلف وغياب هوية مشتركة جامعة للسوريات والسوريين. 

- لا يتوقف الأثر السلبي لحالة فرض الهوية الشمولية على الصعيد الداخلي السوري وحسب بل يتجاوزه ليشكل مصدر خلل بأمن المنطقة والعالم أيضاً لأنه يتطلب استخدام أدوات تمكين وتكريس للعصبية القومية والدينية بكونها عوامل أساسية لقوام المنظومة الأساسية كما يتطلب وجود تحريض مستمر بين القوميات والأديان من منطلقات عنصرية متعددة الأوجه، كما يتطلب تطبيق حالة خلق العدو الخارجي والتحفيز ضده منتجاً بذلك كله فكر متطرف عابر للحدود.

 

يظهر الواقع بوضوح اليوم أن السردية التأسيسية السابقة والبنية السياسية المرتكزة عليها والقائمة على فرض هوية شمولية لم ولن تحقق الأمن والاستقرار للسوريين بالدرجة الأولى وللمنطقة والعالم بالدرجة الثانية.

هذا الواقع يفرض على السوريين واجب التغيير الجذري حفاظاً على أمنهم ومن منطلق بناء حالة مستقرة لأبنائهم وللأجيال السورية القادمة كما أنه يتطلب توجه دولي داعم لبناء الاستقرار والسلام المستدام وانهاء أي توجهات مولد ومنتجة للتطرف والإرهاب في سوريا وفي المنطقة.

ورغم تعدد الدساتير التي وضعت في سوريا في القرن المنصرم الا أن سرديتها التأسيسية لم تتغير وبقيت مشتقة من حالة التأسيس لدولة قائمة على النظرية القومية (محاضرة للدكتورة سميرة مبيض الدستور السوري لعام 1973، ضمن كونفرانس المركز الأوروبي للدراسات الكردية 12/2021). من هذا المنطلق فان التوجه نحو تغيير فعلي في الواقع السوري المتردي على كافة الصعد يتطلب العمل على وضع دستور سوري جديد تأسيسي للدولة السورية الحديثة. 

 

 لا زالت السردية المشتركة تعتبر حجر الأساس الأهم في هذا البناء وسط سرديات متعددة تُطرح وتتجاذب على الساحة السورية فان ما سيعمل على الجمع بين السوريين هو القادر على التأسيس لعهد سوري جديد نقيض لما سبق وذلك يتطلب تحقيق النقاط التالية:

- ألا تُفرض رؤية سوريا المستقبل من منظور القوى المنتصرة بالسلاح أو من منظور تيارات الصراع الأيديولوجي التي تقاسمت كسلطات أمر واقع المناطق السورية اليوم فهي تشكل بمجملها جزءاً من المنظمة السابقة واعتماد منظور هذه الفئات سيفضي حتماً الى إعادة انتاج الفشل لعقود طويلة قادمة واستمرارية انتاج التطرف والإرهاب واطالة عمر الصراعات على حساب معاناة السوريين وتدهور شروط حياتهم بشكل مطرد. 

- ابراز حقيقة ان تأسيس الدولة السورية منذ قرن من الزمن لم يقم على أسس سليمة بل وفق مُعادلات تجاهلت عوامل أساسية للاستقرار والاستمرارية لسوريا وللشعب السوري وجاءت نتائجها كارثية وذلك ما يجب تقويمه اليوم.

- يتوجب أن تنطلق السردية والرؤية المستقبلية لبناء الدولة السورية المستقبلية بالارتكاز على عوامل معرفية وواقعية أهمها البعد الإنساني للشعب السوري وتنوعه وتعدديته الاثنية والقومية والمذهبية والبعد المكاني اللازم من أجل الحفاظ على الشروط المناسبة لاستمرارية حياة سوريا كأرض وشعبِ ونظام حكمِ يتوافق مع كليهما بازدهار مُستدام.

- يتطلب ذلك تثبيت التعريف السليم لمفهوم الهوية السورية التعددية في سردية مشتركة سوية سليمة وتحديد المنظومة التي ستكون الحامل السياسي للبلاد وفق الهوية السورية التعددية وحماية هذه المفاهيم ضمن الدستور المستقبلي الذي يعترف بجميع السوريين بمكوناتهم القومية، العربية، الكردية والسريانية والتركمانية والشركسية والارمنية وغيرها ويعترف بالثقافات الدينية، الإسلامية، المسيحية، اليهودية، اليزيدية إضافة الى بقية الشرائع والمناهج القيمية اللادينية وفق ما حمله تاريخ المنطقة من تتالي حضارات وثقافات انسانية حاضرة في سوريا لغاية اليوم وبما يحدده العامل المكاني من إطار وجود مشترك للسوريين ونيل حقوقهم وضمان حيادية الدولة تجاه كافة الأديان والقوميات.

يبقى ختاماً أن نشير الى أن تبني هذا المسار يتطلب الاعتماد على السوريين المدنيين المتضررين بمجملهم من مآلات الأمور لتُبنى السردية المستقبلية بحيادية سياسية بعيداً عن الصراعات والاستقطابات بما يصب في مصلحة سوريا وأهلها.