مزارع الرياح في الهضبة السورية، اجترار لما تجاوزه العلم البيئي

 

د. سميرة مبيض 

 

٢٣ حزيران ٢٠٢٣

 

 

الهضبة السورية، مكمن للطاقة المائية والهوائية وللتربة الخصبة، والتي لطالما تمحورت حولها صراعات اتخذت اشكالاً مختلفة وبقي جوهر الحدث واحد وهو الاستفادة من ما تمتلكه هذه المنطقة من موارد حيوية تزداد قيمتها كلما ازداد احتداد المعضلات البيئية المحلية والعالمية، وهي اليوم في تصاعد مطرد لا يقف عند التلوث البيئي أو على ارتفاع درجات حرارة المناخ بل يتجاوزها للتأثيرات المباشرة والغير مباشرة لهذه المتغيرات على السياسات العالمية وعلى احتياجات الشعوب ومتطلبات الاستقرار المُستدام.

ولا تخرج مظاهرات أهالي الجولان وامتدادها في الجنوب السوري اليوم عن إطار السياسات الخاطئة التي طُبقت في المنطقة والتي اغفلت طويلاً مفهوم السلام الحيوي، وعن انفصال القرارات السياسية عن واقع الأرض ومواردها وعن ضرورة ادراجها في كل وفي جميع القرارات الاقتصادية، السياسية، التنموية، المجتمعية وغيرها لكونها حجر الأساس في بناء وتطوير أي مفاهيم سياسية سليمة وسوية وذلك يناقض كلياً ما حصل لعقود في الشرق الأوسط وفي سوريا بشكل خاص، وها نحن اليوم نشهد فشل جميع الاتفاقات السياسية لحكومات المنطقة وللمؤسسات الدولية على حد سواء في بناء ما كانت هذه الجهات تسوق له اعلامياً من سلام، وأمن واتفاقات لم تصمد أمام مشروع مزرعة للرياح. 

 

والحقيقة أن هذا المشروع يعكس بشكل نموذجي الحالة السياسية في المنطقة، والتي تقوم على بشكل رئيسي على مبداً المقايضة الاقتصادية والتغول المادي والسلطوية العسكرية وتغفل قواعد الحياة برمتها بل وتنكرها في مواجهة مكررة بين الجهل وبين العقل رغم نتائجها المحسومة منذ فجر البشرية. كما يعكس هذا المشروع عدم مواكبة السياسات في المنطقة للسياسات العالمية فما يُعرف بمزارع الرياح والتي تقوم بشكل أساسي على بناء مئات من الطواحين هوائية في مساحة محددة هو مفهوم بدأ العلم بكشف مساوئه الكبيرة وباتت كثير من الدول على أعتاب التخلي عن هذا النموذج دون التخلي عن مكامن الطاقة النظيفة بالهواء، عبر السعي لإيجاد وتنفيذ منهجيات اكثر كفاءة للحصول عليها وقد صدرت في هذا السياق عديد من الدراسات العلمية التي توضح الأثر السلبي للطواحين الهوائية والتي يصف البعض تمددها بالاجتياح للأراضي الخصبة والذي يهدد جودة المناظر الطبيعية، ويهدد النظم البيئية القائمة في مواقع انشائها إضافة الى التلوث الصوتي الناجم عنها دون تجاهل التلوث الناجم عن نفاياتها وبشكل خاص العنفات والتي تُصنع من مواد لا تتحلل بسهولة بالتربة كما يتوجب تغيرها باستمرار لضمان فاعلية الآلة، ومن ثم تُرمى هذه النفايات بكميات هائلة وتترك لمصير غير معروف ويُعتبر ذلك ذو تكلفة بيئية عالية للمناطق التي تقبل بإيوائها على أراضيها. وكما غالبية المشاريع التي تتجاهل التوازن البيئي يكمن وراء الترويج لمثل هذه المنشآت شبكات استنفاع من هذه التجارة الرابحة آنياً، بمفهوم الربح التجاري، والخاسرة بمقياس جميع أشكال الحياة واستمراريتها وبمقياس ضمان الإرث الطبيعي والذي يتوجب علينا حمايته للأجيال القادمة.

 

في هذا الإطار تعمل الحكومة الإسرائيلية على مشروع بناء مزرعة للرياح وذلك منذ سنوات عدة في الهضبة السورية، ولا يبدو أن دراسة للأثر البيئي قد تم تقديمها للأهالي الذين وقعوا عقوداً للموافقة على وضع هذه المنشآت على أراضيهم لقاء مبالغ مالية محددة، وهم يتخوفون اليوم من تطبيق هذه العقود ومن توابعها على عدة صعد ونشهد ما يتبع ذلك من تصعيدات شعبية ومواجهات مع الحكومة الإسرائيلية والتي تُضاف لحالة مضطربة أساساً في المنطقة عموماً وفي المناطق الحدودية بشكل أدق. 

 

ولعل غياب سياسات بيئية عالمية ومحلية نافذة هو المعيار الأهم الذي يتوجب الإضاءة عليه اليوم في ظل الازمة القديمة المستجدة في الحدود الجنوبية السورية، فرغم انعقاد مؤتمرات المناخ بشكل متواتر عالمياً لكنها منفصلة فعلياً عن المعضلات المباشرة التي تواجهها الشعوب في ظل التغيرات المناخية وذلك لكونها لا زالت تعتمد على مقاربة قضية المناخ من منظور المنظومة السياسية اللابيئية وهي المنظومة الصناعية والطاقوية القديمة بينما تتسارع المستجدات الواقعية بشكل مُغاير تماماً لهذه السياسات.

 

وفي مسار التغيير والانتقال الطاقوي العالمي القائم اليوم، يبقى للمتضررين في جميع أنحاء العالم، وفي سوريا ايضاً، أن يتمسكوا بمصالحهم ويعتمدوا على العلم في تمكين مطالبهم ويتبنوا ويدعموا المفاهيم الناهضة بالتنمية المتساوية وباحترام الحياة وتنوعها وضمان أولويات استمراريتها، فهو مسار جديد وقد انطلق ضمن خطوات تطور البشرية البديهية وواجبنا التمسك بدورنا والدفع بسوريا وهويتها وأهلها الى مواكبته بكل ما تحمله من غنى في الإرث الثقافي والطبيعي والإنساني وهي ركيزة لا استغناء عنها في النهوض العالمي المُستقبلي.