ساحات الصراع في مواسم الأعياد.
د. سميرة مبيض
١٠ كانون الأول ٢٠٢٣
لا بد أن تدفعنا صور الموقوفين في ساحات الصراع العسكري المفتوح في قطاع غزة، والذين طُلب منهم نزع قمصانهم، أو السير حفاة، لا بد أن تدفعنا دون تقصير لتذكّر صور السوريين المعتقلين في سجون بشار الأسد، والتي سُرِبت ونُشرت بما عُرف لاحقاً بملف قيصر، وقد بدت على جثامينهم آثار التعذيب ومعالمه، هؤلاء الذين ندين لهم بوشاح أحزان، نحيكه من أثواب تجمع دفأ وطمأنينة العالم لنضعها على أجسادهم الهزيلة التي لم ترَ نور الشمس ولم تستنشق نقاء الهواء قبل رحيلها الذي حفر وسيحفر في ضمير البشرية وصمة أزلية، شاهدٌ على أعمق مأساة شهدها التاريخ بحق شعب دُفعت هويته للفناء فأبت إلا أن تطأ الموت بالموت لتصنع تاريخاً وعهداً جديداً عماده أصوات الراحلين وهدفه حماية المستقبل من كل ضيم.
فلا بد لهذا التاريخ القريب أن يضيء دوماً على المتضررين، والذين وفق الإحصاءات المتداولة عن الصراع العسكري في قطاع غزة، كما هي في الصراع العسكري المستمر في سوريا منذ ما يزيد عن ثلاثة عشر عام، هم من المدنيين الذين شكلوا النسبة الأكبر من الضحايا في حين لبث صانعو الصراع وكذلك المستنفعين منه، مختبئين هنا وهناك، أجبن من مواجهة نتاج جهلهم وسوء أفعالهم.
ولا بد لهذه الأحداث بمجملها أن تطرح دون هوادة فظاعة العدمية التي تسِم القوانين الدولية تجاه حماية المدنيين من همجية هذه الأطراف، حيث يعجز هؤلاء عن تبني توافقٍ بسيط بمسمى هدنة لوقف إطلاق النار، ليستمر الأبرياء، أطفال ونساء، كهولاً وشابات وشُبان، في عموم مناطق الصراع المسلح شهوداً على فشل المنظومة القديمة، وأصواتاً محقة تُطالب بإنهاء حقبة الهمجية، بجميع أدواتها وايديولوجياتها، وشخوصها وزيف سردياتها.
ودوناً عن عدمية القوانين الدولية، يبرز كذلك الدور التحريضي الذي تقوم به الدول الإقليمية في ملفات الصراع في الشرق الأوسط اليوم، فهذه الدول التي تنتحل دور الوسطاء لتحرير الرهائن حيناً وصانعي التسويات ومنفذي اتفاقيات التهجير حيناً آخر، هي ذاتها دول التحريض الأيديولوجي والتسليح وتزييف الاعلام، بيد، ودول رعاية تشكيلات وشخوص فارغة بمسمى معارضة أو حكومات مؤقتة وميليشيات أو حكومات مُعطلة بيد أخرى، ولا زالت هذه الدول تفرض أدواتها الممولة على معاناة الشعوب المتضررة لتستفيد منها وذلك جزء من منظومة فاشلة حمل عبئها المدنيون طويلاً وهم اليوم يلفظونها قولاً واحداً بعد أن كشفت مجريات الثورة السورية الغطاء المتبقي عن زيف هؤلاء وأدواتهم والتي لا مكان لها للنجاة بالأجيال المستقبلية، ليكون مطلبنا اليوم أن تتوقف هذه الدول عن التحدث باسم قضايانا، عبر مسؤوليها أو شخوصها أو تشكيلات صنعتها، فأبناء هذه أرض هم الاقدر على حفظ هويتهم وضمان حقوقهم والنطق بألسنتهم.
تزورنا هذه الوقائع في جميع الأيام، وانتهاكات هذه الأطراف بحق السوريين لم تتوقف منذ عقود فهي لم تُميز بين المواسم والمناسبات، وها نحن اليوم على أعتاب شتاء يبتدأ معه تقويمُ عامٍ جديد، ليحتفي كثيرون بالأعياد هذا العام أيضاً وهم عن جوهرها غائبون، فلتبقى لنا أيدينا تُرفع الصلوات سلاماً ورحمة لأرواح الراحلين، ولنفوس كل من يعاني في العراء والخيام والسجون، من ضيق أو من ترويع أو من برد وجوع، فبعد أن طالت النزاعات جميع دور العبادة فلم يبق فيها من له صلاة تُسمع، لنحفظ في أعماقنا تراباً من أرضنا، أرض لا تخلي بساكنيها ولا هم بها يخلون، ليكون محرابنا، ولنبني به ومنه مسارنا المستقبلي، مسار يحترم الحياة ويحميها أين وكيف ما وُجدت.