بلاد لا كذب فيها، ضرورة أم طوباوية.
د. سميرة مبيض
١١ نيسان ٢٠٢٤
ستتقاطع بعض الأحداث في هذا المقال، والآتي على خلفية اغتيال سياسي جديد في لبنان، وعلى خلفية كلمة وردت لعقيلة المغدور ذكرت بها ايمانها بأن الراحل قد انتقل لمكان لا كذب فيه، لا حقد ولا فساد، وهي قد عبّرت بهذه الكلمات عن أمل شريحة لا يُستهان بها من مواطني دول المشرق، لبنان، سوريا، العراق، وغيرها في انهاء ما يُمكنُ تعريفه سياسياً بدول الكذب وهي بالمختصر الدول التي يتم فيها تعميم وتشريع الكذب وهو مصطلح مُفند في مقالة سابقة بعنوان دولة الكذب ومعضلة فقدان الثقة، والواردة في كتاب (كيف أرى الثورة السورية، د. سميرة مبيض، ص ٨، ٢٠١٨).
فمع اندلاع ثورات شعوب المنطقة تكشفت كثير من مسببات الحال الكارثي الذي وصلت اليه هذه البلدان، والتي يمكننا الجزم اليوم بأن لا دول قائمة فيها بل هي تظهر حالات متفاوتة من انهيار وفشل الحكومات في تأدية مهامها، بدءاً من أمن المواطنين بأبسط مقوماته من حقوق، مروراً بأمن الحدود وحسن الجوار وانتهاء بالالتزام بدور المنطقة كجزء من الأمن العالمي والتقدم الانساني، في تلك جميعها فشلت البنيوية المتصدعة لهذه الدول في الضلوع بمهامها أو بكسب ثقة مواطنيها أو حلفائها أو نظرائها، وأحد أهم هذه المسببات هو أنها منظومة قامت أساساً على تزوير واقع الشعوب، فالسردية التأسيسية لعديد من هذه الدول والتي، للتذكير قد جرت تحت وطأة السلاح وتقاسم غنائم الحروب العالمية، لم تكن سردية الحقيقة والواقع بل سردية تحت الترهيب ولعل هذا الخلل التأسيسي هو ما يتوجب تقويمه اليوم.
ففي ظل ثبات واستمرارية الثورات وبالأخص في سوريا، يمكننا إضافة مطلب اسقاط دولة الكذب، كهدف أساسي من أهداف الثورة، ليس لكون دول الكذب هي دول الفشل على كافة الصعد وحسب بل لأن المنعكسات الاجتماعية لمثل هذا الأداء هي منعكسات كارثية والتصاق هذه الصفة المذمومة في جميع الثقافات الإنسانية، كصفة ملازمة للمسؤولين الحكوميين والسياسيين هي نقطة مقتل لا يمكن لأي حكومة النهوض بها فلا يمكن التعويل على هياكل سياسية تُخلّ باستمرار بثقة المواطنين، لا بل وترتكب بحقهم أسوأ الانتهاكات الإنسانية، دوناً عن أن هذه المنهجية بالتلاعب والكذب لم تعد تقتصر على السياسات تجاه الشعوب وحسب بل باتت نهجاً بين الدول مما أخلّ بالأمن العالمي بشكل مباشر وعرّض ويعرض البشرية جمعاء لخطر صراعات غير محمودة النتائج، ومن هذا المنطلق فمطلب اسقاط دول الكذب بات ضرورة وليس طوباويات أو مثاليات، كما كان يدعي داعمو دول الكذب بجهلهم المعهود بأسس بناء مسارات سياسية مستدامة وقابلة للحياة وللتفاعل الإنساني البنّاء.
ولعل المتضررين من تاريخ دولة الكذب في سوريا، من مواطنين ولاجئين في دول الجوار والشتات ممن رفضوا الارتباط بمنظومة الترهيب والقتل والتزييف، هم أكثر من يشهد على سوء هذا النهج السياسي، فاليوم شريحة تزيد عن نصف الشعب السوري وقد نجت من المآل الكارثي لمسار بائد، تطالب بتمثيل حقوقها وتشريعها على كافة الصعد، في دولة حديثة لا كذب فيها على الناس، لا في هويتهم ولا في ثقافاتهم، لا في قوتهم ولا في أرزاقهم وأرضهم ولا في حقوقهم وواجباتهم تجاه ذواتهم وتجاه محيطهم والعالم، فليس بأقل من ذلك تُقابل تضحيات السوريات والسوريين.
وبتقاطع الأحداث والمفاهيم، تبرز قضية الاغتيالات السياسية في لبنان كإحدى أوضح النقاط على فشل هيكلية الدول في المنطقة، فهي اغتيالات لم تنجو منها أي جهة سياسية لبنانية، وبقيت جميع ملفات قضايا الاغتيالات، على اختلاف اصطفافات الضحايا، رهينة صندوق المُقايضات السياسية المُشرّع في دول الكذب.
لكن ولحسن طالع شعوب المشرق فاليوم ليس الأمس، ورفض الناس للاغتيال الفعلي أو المعنوي للشرائح المُستهدفة بهذه الجرائم بات محركاً إضافي لإنهاء واقع تتحكم به ثلة جاهلة بقوانين التوازن المجتمعي والسياسي والاقتصادي، ثلة تتخبط بالتصريحات وبالأفعال وتعجز عن إدارة شارع أو حي أو بلدة فكيف سيعول عليهم بإدارة دول ومصائر بلدان في مستقبل مليء بالتحديات، فرغم أن المصاب جلل للشعوب التي لا زالت تتحمل كوارث وتبعات هذه الحكومات، لكنه مصاب دفع للإدراك ودعم التغيير الذي انطلق فعلياً ولن يتوقف لحين وصول المنطقة لموقع استقرار حقيقي وبه يتقاطع مستقبل ومصائر دول عدّة، خارجة من لبوس دول الكذب وناجية من مساعي اندثار الهويات الإنسانية للمنطقة، نحو رحابة منظور انساني حديث، يضمن للجميع حفظ أمنهم وأمانهم واستمراريتهم، يضمن بالمختصر حق الحياة والمُناقض قولاً واحداً لركائز دول الكذب.