الأثر، بين الجدران الاسمنتية وسدود القنادس.
د. سميرة مبيض
٢١ شباط ٢٠٢٤
تلوح ملامح الفصول الأخيرة لإحدى قضايا الشرق الأوسط، قضية فلسطين والتي دامت لعقود طويلة كذريعة استخدمتها نُظم المنطقة المُصنعة لقمع الشعوب ولمنع نهوضها، ولتمكين الترسانات العسكرية ولتمرير الفساد والفاسدين ولاتهام كل من يُحاسب على التقهقر الداخلي لهذه البلدان بالعمالة وبإضعاف هيبة السلطة كما استخدمت هذه القضية كقضية مركزية لمؤسسات دولية ادعت محاولات إيجاد حلول لفترة تزيد عن نصف قرن، دون جدوى طبعاً، بما رافق ذلك من أوراق واتفاقيات وأعمال إغاثة وإعمار وغيرها تُرمى جميعها في محرقة الفشل، بل لتتكشف حولها عوامل إضافية تجعل التوجس مشروعاً من دور هذه المؤسسات في ما آلت اليه الأمور من كوارث وانتهاكات لا بد أن يبدأ حولها ملف المحاسبة، محاسبة كل من كان ضليعاً في تزييف مسار أو توطين تطرف بأي شكل ومسمى كان في المنطقة التاريخية لبلاد الشام، فلا حصانة تقف بوجه هذا التدهور الذي يهدد المنطقة برمتها ولا يمكن تسمية ما أدى لهذا الانحدار الإنساني بمسار سياسي بأي حال من الأحوال، ولا بمساعي لحفظ الأمن بكل تأكيد ولا بأي مسمى غير ما يقوله الواقع وغير ما اظهرته الحقيقة، مسار همجي عمره قرن من الزمن سيذكره التاريخ الإنساني ليوصّف حقبة انحدار، عسى أن يكون بعدها نهوض وألا تؤدي الى مزيد من ارتدادات التقهقر على كافة الصعد.
ولعل هذه الفصول تتطلب، للعبرة، النظر في المواقف الحالية لبعض النظم في المنطقة، والتي لطالما ادعت دعم قضية فلسطين، بشعارات وزعتها على الشعوب كل يوم دون ملل، بالجرائد والأخبار والخطابات والخطب، والمدارس والمناهج الخ.. هذه النظم ذاتها ترفع اليوم جدراناً اسمنتية، ليس لحماية بقاء المدنيين في ارضهم، لا بل هي ترفعها بوجههم وتهادن في الحين ذاته على تهجيرهم الى اللامكان،
فلم تعد للتصريحات الخلبية هنا وهناك مكان ولم يعد أحدٌ ينبهر بمغامرات الإنزال المظلي لمساعدات إنسانية لا تقي من قصف ولا تؤمن من تهجير، بل لندع الجدران الاسمنتية تتكلم فهي التعبير الوحيد الحقيقي، بدون رتوش، عن ردود هذه النظم والمؤسسات تجاه معاناة الانسان، التعبير الواضح عن رفض مد يد العون وعن المساهمة بالانتهاكات بدافع الأطماع بالمال وببقاء دوائر السلطة، أطماع لن يكتب لها الحياة، لكنها رغم ذلك مهمة للتفنيد لكونها ستبقى توثيقاً انسانياً لتهتدي به الأجيال القادمة عن ما تجلّى من انحرافات ومن سوء منظومة سياسية زائلة دون عودة بحتمية التطور والتقدم الطبيعيين للبشرية.
فالهدف الأول اليوم للمنظومات القديمة في المنطقة هي كيف ستستمر بالاستفادة والاستنفاع من معاناة البشر، كيف ستستولي على أموال الاغاثة عن مسمى اللاجئين، كيف ستعزز القمع بمسمى محاربة العدو، كيف ستمنع النهوض بمسمى تهديد الأمن، وأي أمن هذا تحديداً في بلاد بات كل مواطن فيها شاهد على انعدام المسؤولية الكامل وانعدام قدرة هذه الحكومات على إدارة الدول، فلا أمن غذائي ولا اقتصادي ولا تعليمي ولا سياسي، ولا قدرة على إدارة الكوارث الطبيعية ولو بأدنى الحدود وهي التي ستشكل التحدي المتفاقم في المنطقة وفي العالم.
فما بعد قطاع غزة تلوح ملامح رفح وتهجير جديد وقصف وتدمير وتواطؤ وتلاعب سياسي وتصريحات لا تطبق عن وعود تأسيس دولة تمضغها الألسن منذ عقود طويلة، وليعذرني القارىء الفلسطيني والعربي والغربي والبشري والرقمي عن كلمات غير منمقة ربما في هذه السطور، لكنني للتو سمعت صرخة أم، هناك في مكان ما من مشرقنا العتيد، تبحث عن كفاف يوم، تبحث عن سقف آمن، وعن موطأ قدم لم تبتلعه الرمال المتحركة، فلم تعد تلك البديهيات الا نُدرة للأمهات رُغم أنه حق لا يِسلب منحته الحياة، وما هذا المآل الا احتراق مسبق لجميع الخطط السياسية، لمؤسسات المصالح الاستنفاعية، دولية كانت أم محلية، والتي حفرت في تلك الأرض انفاقاً تموج بسطوحها، فهل بأقل من كف يدهم جميعاً ستستقيم معادلة التقويم، لا، باختصار واضح، فلا تهدروا الأزمنة والتعابير عبثاً، ولنواجه الجدران الاسمنتية بسدود للقنادس.
لمَ، لأن الطبيعة تصطفي دوماً ودون استثناء بناء التنوع، وسدود القنادس عدا عن كونها مأوى وملجأ، تصنعه هذه الكائنات لنفسها ولصغارها، لكنها أيضاً تؤثر عبره بالموئل الحي الذي يحيط بها وتعدل في نظامه برفق لتخلق من مساحة واحدة مساحات متنوعة وفق تجميع المياه وصرفها، وتتنوع بذلك النُظم البيئية ومعها الكائنات الحية التي تقطنها، فهل من عبرة أهم لما اصطفته الطبيعة، أم هل سيتعنت الانسان طويلاً معتقداً أنه يخلق بالظلم والشمولية والقمع والاستغلال والسلاح عالماً قابلاً للحياة، لا، باختصار ووضوح أيضاً، فلا تهدروا الأزمنة والتعابير عبثاً، فالمشرق اليوم غير مشرق الأمس، وان كان من طوفان فعلاً فهو في حق الحياة لكل من ادرك أنه حق لا يُمحى بالتقادم، لا يُباع ولا يُشترى ولا يُستبدل، ولا تعلو عليه جدران اسمنتية، ولا تمسه صواريخ وطائرات مسلحة، بل سيأخذ بمواجهتها أشكالاً جديدة متجددة وحسب، فما هي الا سمة الحياة الأولى.