المنظور التعددي كمرتكز لدستور سوريا المستقبلي 

د. سميرة مبيض

20/06/2021

ساد في مجتمعاتنا عموماً تناول خاطئ وغير معمق لمفهوم التعددية، فقد اقتصرت معالجة هذا المفهوم على تعداد توصيفي للتنوع القائم ضمن المجتمع من حيث البنى المجتمعية والاثنية، التوجهات السياسية، المعتقدات الدينية، التيارات الثقافية، التنوع الجندري وغير ذلك. مع اعتبار هذه التعددية حالة ثانوية يتم احتواؤها في وعاء واحد يُعرّف من منطلق أحادي ويعتبر هو المحرك الرئيسي لبناء الدستور ولتنظيم الدولة ولسن قوانينها فيبقى بالنتيجة هذا المفهوم الأحادي هو المُسير لمنطق ومنهجية بناء الدولة عوضاً عن اعتماد المفهوم التعددي كمحرك وكمنطق ومنهجية هذا البناء. 

وباعتبار أن النظم السياسية تسعى لمحاكاة واقع شعوبها فان هذا النموذج الأحادي المنظور لا يمكن أن يمثل بأي حال من الأحوال مجتمعاً بشرياً متنوع ذو ديناميكية مستمرة على كافة الصعد وتلك قاعدة ثابتة في أي مكان من العالم وليس في منطقة الشرق الأوسط أو في سوريا فحسب، وهنا تبرز سلبية المفاهيم الثنائية المتصارعة والمتنافرة التي يفرضها المنظور الأحادي لتبين بوضوح قصور الرؤية التي ينطلق منها، فهو منظور يتفادى الدخول في دقائق الأمور وحيثياتها وأطيافها التعددية الواسعة لأنه غير قادر على ادارتها فيستعيض المنظور الأحادي عن الواقع بطرح ثنائيات متضادة ومتحاربة، بتموضعه ضمن أحد الأقطاب بمقابل الطرف أو القطب الآخر فيضمن بذلك إعادة انتاج نفسه ونظيره ضمن هذه الصراعات بشكل متتالي. 

فمن أبرز الأمثلة على المفاهيم الثنائية الأقطاب يُمكننا الإشارة الى ما يلي:

تباين مفهوم العلمانية بين المنظور الأحادي والتعددي:

يطرح مفهوم العلمانية من المنظور الأحادي كقطب مضاد للمعتقدات أو الأديان على تنوعها، فتقدم العلمانية كنقيض لمفهوم الايمان بمعتقد ما وهذا الطرح تضليلي تماماً ومخالف للواقع لأن فكر الانسان وفلسفته بالحياة وايمانياته وعلاقته بالغيبيات وبالأديان ورؤيته لمسار وجوديته وخلقه وحياته وموته تحمل من العمق والتنوع والتعدد ما لا يمكن اقتصاره على هذه القطبية  عدا عن ما قد ينتجه الفكر الإنساني مستقبلاً ضمن هذه المعتقدات والذي يعتبر بحكم الملغى مسبقاً في ظل هذه المنظور الأحادي فيمنع بذلك أي تقدم وتطور ويحافظ على أقطاب جامدة كشرط لبقائه واستمراريته. 

في المقابل فان ذات المفهوم أي العلمانية يُقدم من منظور تعددي تصوراً واقعياً بكون العلمانية هي إطار حيادي للدولة وللحوكمة قادر على الاعتراف بالتعددية الدينية واحترامها وحمايتها دون اصطفاف وقادر على ادراج أي مفاهيم حديثة ضمن ذات المنظومة الحيادية دون خلق أقطاب متصارعة متناحرة بل خلق مساحة واسعة لتواجد الاطياف وتفاعلها الإيجابي وانتاجها وتطورها المستمر.

تباين مفهوم القومية بين المنظور الأحادي والتعددي:

ليست العلمانية هي المفهوم الوحيد الذي يتم تشويهه ضمن المنظور الأحادي لبناء الدولة وتأسيس المجتمع بل يخلق هذا المنظور من التعددية القومية ساحة حرب أيضاً من ذات منطلقات عجزه عن إدارة التنوع وتحويله لصراعات، بينما يعتبر المنظور التعددي التنوع القومي ومختلف البنى الاثنية عاملاً طبيعياً من قوام المجتمعات لا تدخل ادارته من مداخل سياسية تسعى لهيمنة قومية على غيرها بالسلاح أو بالسلطة بقدر ما يدار من مداخل اجتماعية مدنية تخلق الأطر الملائمة للوجود المشترك.

تباين مفهوم التنوع الجندري بين المنظور الأحادي والتعددي:

لعل المفهوم الثالث الذي تجدر الإشارة لتبايناته بين المنظور التعددي أو الأحادي هو التنوع الجندري، حيث ينطلق المنظور الأحادي من هيمنة المنظومة البطريركية على المجتمع والتي تصطنع أدواراً حصرية لكل من الجنسين بعيداً عن إمكانيات ومقدرات الفرد بحد ذاته وتخلق بذلك حالة انحراف عن التوازن الطبيعي وتميل نحو الحالة الاستقطابية بهيمنة صفة محددة تحقق شروط المنظومة السائدة على الأطراف الأخرى مما يجعل من الصراع والتنافسية هي السمات السائدة في ظل هذه المنظومة ولا يستطيع تحقيق الاستقرار أو العدالة الإنسانية لكلا الجنسين.

 في حين يتناول المنظور التعددي التنوع الجندري بكونه سمة رئيسية للتنوع بين الأفراد فلا يمكن احتواء كافة التنوعات الفردية ضمن قوالب نمطية مسبقة وبالتالي يكون موقع الفرد ودوره في المجتمع وفق المنظور التعددي مُعتمداً على كفاءاته ومقدراته وليس على الحالة النمطية الُمسبقة مما يسمح باستعادة التناغم والاستقرار والاهم يسمح ببناء وترسيخ العدالة الإنسانية الحيادية عن النوع الجندري. 

تباين مفهوم العدالة الاجتماعية بين المنظور الأحادي والتعددي:

المفهوم الرابع والأخير الذي أورده كمثال للتباينات بين المنظورين هو مفهوم العدالة الاجتماعية، فالمنظور الأحادي ينطلق من تقسيم المجتمع بفوارق حادة بين الطبقات المجتمعية مما يجعل قابلية الصراعات الحدية قائمة باستمرار بين الطبقات المجتمعية أو حتى بين المناطق بناء على فروقات مجتمعية بصورة تؤدي لترسيخ غياب العدالة المجتمعية وتزيد تمسك الأطراف بمواقف راديكالية تؤدي بدورها لخلق تيارات سياسية متضادة متصارعة كحوامل لهذه التوجهات ولعل أبرز الأمثلة عليها هي تيارات اليمين المتطرف واليسار المتطرف واللذان يحملان بالمضمون مواقف وسلوكيات متطابقة وتنطلق من المنظور الأحادي من حيث العنصرية وخطاب الكراهية تجاه الآخر المختلف وزرع الفتنة والعنف اللفظي والسلوكي.

بينما ينطلق المنظور التعددي من المساواة في الفرص التي تسمح ببناء الفرد ومقدراته، أي من مبدأ تساوي الفرص للجميع بما يسمح ببناء الحياة بمسارات مختلفة ونتائج مختلفة وفق الإمكانيات والمقدرات الفردية ودون تفاضلية بينها بل من تبني وجود دور وظيفي فاعل لكل انسان ضمن مجتمعه، وفق نقاط انطلاق وبناء على سوية واحدة بين الأفراد. فتساوي الفرص من هذا المنظور يعني المساواة في المقدرة على الوصول للموارد الأولية للحياة وللمحيط السليم بيئياً وصحياً، المساواة فيما وصل اليه التقدم العلمي والصناعي، المساواة في التعليم المعمق القادر على احداث الفرق وتساوي حق الجميع بالحصول على بيئة سليمة انسانياً بعيداً عن أي انحرافات وانتهاكات لحقوق الافراد. بناء الفرد يتم وفق هدف خدمة المصلحة العامة لمجتمعه المحلي وللإنسانية عموماً وهو بذلك يفتح الأفق للإبداع الإنساني الخلاق المستمر، وليس وفق خدمة منظور جامد يتطلب وأد الابداع وتقييده في اطر ضيقة.

المنظور التعددي لدستور تأسيسي لمستقبل سوريا: 

أربعة مفاهيم من ضمن العشرات وربما المئات التي يتنافس بها المنظور التعددي مع المنظور الأحادي، تدفع بموضوعية وبقوة لتبني المنظور التعددي لبناء دولة سوريا المستقبل لتكون دولة قادرة على إدارة التنوع بالدرجة الأولى ففي حين يدفع المنظور الأحادي لوأد هذا التنوع ولتبني سياسة الفصل المكاني ولاعتماد ممارسات التهجير والترحيل لتحقيقها يعمل المنظور التعددي على إيجاد مساحات التناغم المكانية وأدوات بناء التواجد المشترك سعياً لتحقيق الأمن والاستقرار ولاستعادة العدالة والمساواة المفقودة.

يتطلب اعتماد المنظور التعددي لبناء لدستور التخلي عن المفهوم الأحادي الذي ساد في سوريا طيلة القرن المنصرم بعد أن ثبت فشله الذريع ونتائجه الكارثية، كما يتطلب الابتعاد عن الأطر الأيديولوجية المفروضة على المساحات المكانية نحو اعتماد الإطار المكاني الحيادي الذي تُبنى هويته بناء على الثقافات القائمة ضمنه وليس العكس، ضمن مسار التغيير الجذري في سوريا يبدو هذا المسار كأحد أبواب الخروج من متاهات الدوران في الزمان وأحد أدوات صناعة مستقبل مختلف عن حقبة لم تتسم الا بالتقهقر والتردي.