أسس الهجرة وذرائع مُبتدعة للانتداب الاقتصادي

د. سميرة مبيض

٨ نيسان ٢٠٢٤

 

تعتبر المقدرة الذاتية على النهوض والبناء هي النموذج الأمثل لاستقلالية البلدان والشعوب والمسار الآمن لضمان مصالحهم وتأمين مستقبل أجيالهم القادمة، وهذه المقدرات الذاتية لا تقتصر على النواحي الاقتصادية، بل هي ركيزة لمهام الدول السوية، ضمان الأمن، ضمان الاقتصاد، وكافة الشروط التي تؤمن حياة سوية وسليمة لكل فرد مواطن في أي دولة كانت، وهذه الآليات الذاتية تحديداً هي ما تم نقضها في نموذج حوكمة عديد من الدول تبعاً للنظم الشمولية التي صُنعت بعد الحروب العالمية، والتي تبين فشلها في التنمية وتحقيق التقدم والتطور

 

وغني عن التوضيح أن أحد أهداف تصنيع ودعم هذه النظم الشمولية في الحقبة الماضية كان سبباً اقتصادي، على الأخص في المناطق الغنية بالموارد، وذلك لضمان التحكم بأسعار الطاقة والسيطرة عليها، كما أوضحتُ في مقالة سابقة بعنوان الانتقال البيئي والطاقوي من منظور الأمن العالمي، والواردة في كتاب (كيف أرى الثورة السورية، د. سميرة مبيض، ص ١٤٧، ٢٠١٨)، ومن أدوات هذه المنظومات أيضاً تمكين الفاسدين في مواقع السلطة وتآكل المؤسسات الخدمية وتراجع أدائها وفعاليتها وكذلك الزج بالدول بصراعات  تستهلك الموارد، أو بأي أشكال أخرى من التعامل الاقتصادي الغير متكافئ والذي تستنفع منه جهات أو دول على حساب استهلاك موارد شعوب ودول أخرى وتعيق بذلك تحقيق تنميتها المستدامة

 

أدت هذه السياسات خلال الحقبة الصناعية / النفطية لتضاؤل فرص تنمية وتقدم شعوب ودول كثيرة في العالم كانت تحت وصاية اقتصادية أو عسكرية لدول صناعية / نفطية أخرى، وانعدمت فيها التنمية الذاتية مما دفع لموجات هجرة كبيرة نتيجة لانعدام الأمن والتنمية الاقتصادية ومؤخراً نتيجة لعدم التصدي لتداعيات التغيرات المناخية المتزايدة في عديد من المناطق والبلدان، أي أن الهجرة كانت ولا زالت نتيجة بديهية للسياسات الخاطئة القائمة على الوصاية والتبعية وما يترافق معها من تقهقر على كافة الصعد في مناطق محددة من العالم وسعي المتضررين للهجرة يعتبر حق لأي مجموعة أو فرد بالبحث عن شروط حياة مناسبة تضمن الاستمرارية

 

أما اليوم، وبعد بدء مرحلة التحول الطاقوي، فكثير من مفاهيم الحقبة الصناعية / النفطية المتعلقة بالاقتصاد قد تبدلت وتضاءل تأثيرها وباتت الشعوب تنظر لمصالحها بشكل أكبر وتناهض كل ضرر واضرار بأمنها، فقد ظهرت مؤشرات لا يُستهان بها بتحول عمليات مناهضة الهجرة لشكل من أشكال الإبادة غير المباشرة للشعوب المعنية، فلا تنمية محلية قائمة بحكم فرض نظم عسكرية قمعية غير قادرة على النهوض بالدول، ولا سبل هجرة آمنة بحكم بروز التيارات المناهضة للمهاجرين على أسس عرقية أو عنصرية أو سواها، وبحكم تعرض المهاجرين للمخاطر المتعمدة ومن ثم للانتهاكات في بلدان اللجوء، كل ذلك دفع ويدفع بمفاهيم جديدة لتضمن الشعوب المتضررة مستقبلها التنموي الآمن، وخروجها من أي وصايات تستغل مقدراتها بأي شكل كان

 

ومن هذه المنطلقات تحديداً اندفعت ثورات شعوب الشرق، ومنها أيضاً التغيير الذي يعم دولاً عديدة في القارة الافريقية وفي مناطق أخرى من العالم، ومن الجلي أن هذا التغيير بات أسرع من أن تكبحه المنظومة السياسية القديمة لأنه يتواءم مع تغييرات عالمية حتمية تفرضها أدوات ومعطيات العصر الحديث والتي تشكل بدورها جزءاً من مسار تطور انساني حتمي لن يتخلّف عنه الا من تشبث بالهمجية السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من معيقات التطور الإنساني، ومن هذا المنطلق أيضاً نرى اليوم أن مساعي الانتداب الاقتصادي استعرّت مُستهدفة بواقي الحكومات القمعية والشمولية الكارهة لشعوبها، تتسربل بمسمى كبح الهجرة حيناً وبمسمى التنمية حيناً آخر، في حين أن الهدف الحقيقي هو أوجه انتداب، ان لم نقل احتلال، لكن هيهات، فلم تعد مصائر الشعوب في يومنا هذا الا بيدها وفي ذلك خير للبشرية جمعاء، فالمسار البائد هو مسار تدميري بأيدي الجهلاء والمدّعين لم يكن لينقذنا منه الا ثورة انسانية، وها هي ثبتت في بلاد الشام موطن خطوات التمدن الأولى، وبها ستبقى