الماء والتربة موائل للحياة وليست أدوات حروب واقتتال.
د. سميرة مبيض
١٧ كانون الأول ٢٠٢٣
وكأن الأسلحة المُصنعة لم تعد تكفي صانعيها، حتى يتغوّل هؤلاء على موائل الحياة لتحويلها لأدوات في صراعات الغوغائية التي يقودونها منذ عقود ويدورون في حلقاتها العقيمة دون مخرج، وقد يقول أي عاقل لنفسه اليوم لندعهم لمآلات ما صنعت أيديهم فهل يجدر بنا الالتفات لمن لا يعير للحياة قيمة ولا يحترم ثوابت أخلاقية حافظت على وجود الإنسانية منذ نشأتها، وقد يبدو ذلك هو المسار الأفضل لنرتقي بمن لم ينجر في أتون الاصطفاف مع القتل والاضطهاد من أي جهة كانت وتحت أي مسمى، لولا أن الحياة ذاتها باتت هدفاً يتطلب الدفاع عنه بوجه الجهل وبوجه ما انتجته هذه الأطراف بحرفها للمسارات السوية والسليمة على كافة الصعد فها هو تغول جديد يستهدف تراب وماء الحوض المتوسط، وفي واقع الحال فان كل متر مكعب من المياه والتربة تحوي كتلة حيوية هائلة مكونة من آلاف الأنواع الحية، وهي كتلة حيوية وظيفية لحياة الانسان وتؤمن شروط المناسبة للحياة على كوكب الأرض وتدخل في تركيب الأوكسجين وفي تهيئة الترب للزراعة والإنتاج وفي عوامل التوازن البيئي كاملة ودون استثناء، وهي أجدى لنا بالتأكيد من اطنان السلاح وممن يروجون لثقافة القتل والعنف والترهيب بأي شكل كان.
وبحكم أن الانسان يشكل جزءاً من هذه النظم البيئية فان استخدامه المتوازن لهذه الموارد، للسكن، والغذاء وتأمين الاحتياجات والتنقل هو أمر طبيعي للغاية لكن ما هو غير طبيعي بالمطلق هو تحويل هذه الموائل الحية لأدوات حروب، فدوناً عن أن البيئة هي الضحية الأولى لهمجية الصراعات، يضيف استخدام الموائل الحية جريمة جديدة تحمل وزرها هذه الأطراف، وليس في المشرق وحسب بل في جميع أنحاء العالم، لكن مثالاً صارخاً يطرح نفسه اليوم على هذه الجرائم وهو سنوات مضت من حفر الأنفاق في تُرب حية بهدف الحروب، بما رافق ذلك من اضطرابات في هذا الوسط وتخريب لموئل هام كان يُفترض استخدامه كمورد أساسي لتأمين احتياجات مواطني وساكني هذه الأراضي وتحقيق اكتفائهم الذاتي، وفي مقابل الانفاق تبرز محاولات لاستخدام أطنان من مياه البحر لإغراقها، بما تحمله هذه الاطنان من كائنات حية، ستتعرض بشكل مباشر للإبادة عبر هذا الاستخدام، في تجاهل تامِ من قبل الأطراف المتحاربة بأنهم ليسوا الوحيدين على هذا الكوكب، وليست صراعاتهم بذات أهمية عندما يعرضون بسببها أمن العالم الحيوي للخطر، فمياه البحر كمصدر للغذاء ولتحلية مياه الشرب إضافة الى الدور الأساسي الذي تقوم به المسطحات المائية في الهطولات المطرية وغيرها من الظواهر المناخية، في تلك جميعها تتعرض هذه النظم للتهديد المباشر. فلم يعد التغول البشري يقتصر على التطفل على هذه النظم لتفكيك النفايات التي ينتجها، بل يسعى لتسخيرها للاقتتال وذلك خلل كبير يتوجب رفضه والتصدي له.
فرغم مقدرة الطبيعة الهائلة على التفكيك والتأقلم، لكن نفايات التغول باتت تشكل تراكمات تتجاوز المدى الطبيعي وتتطلب تغيير جذري بالسلوكيات وليس القبول بأي انحرافات إضافية كما يحصل في هذه الحقبة، وهنا لا تفاضلية تذكر بين طرف وآخر من منتجي ومحركي الصراعات الذين يضيفون أعباء إضافية، لا نحتاجها، على كاهل الحياة، ومن ثم يمثلون أدوار الضحية، في حين أنهم شُركاء في الانتهاكات التي جرت وتجري بحق كل انسان مسالم وكل كائن حي تضرر من همجيتهم بأي شكل كان.
وكأن سوء أعمالهم لم تكفِ الأمم خراباً، لنرى هؤلاء أنفسهم، ساعون لتزييف العلم ليهيمنوا ويتاجروا بمفهوم المناخ ليسير العالم لمزيد من الانحدار والتقهقر، لكن ولحسن طالع الانسانية أن الأداة الأهم بقيت وستبقى بيد الطبيعة، جوهر الحياة ورسم مسارها وتحييد الزيف عنها طال الزمن أم قصر، فبمواجهة الطبيعة يبقى تغولهم ضئيلاً وهزيلاً، قامة وقواماً وللبشرية أن تعتبر من ذلك أو لا تعتبر، يبقى المستقبل لمن أبصر وأدرك وعمِل وآمن بقوانين وسياسات تحترم الحياة كيف وأينما وجدت وحلّت.