هل تستدرك فرنسا القدرة على التواصل مع الجيل الشاب.

 

د. سميرة مبيض

٢ تموز ٢٠٢٣

 

 

من يمكن أن يتكلم مع الجيل الشاب الفرنسي ذو الأصول المُهاجرة، والعربية منها بشكل خاص اذ كانت هذه الشريحة هي الأكثر تأثراً برحيل الشاب نائل متأثراً بطلق ناري أصابه بشكل مباشر من شرطي المرور إثر توقيفه لقيادة سيارة دون رخصة، ولعل هذا هو السؤال الأكثر تداولاً خلال الأيام الماضية والتي احتدمت بها الصدامات بين قوات ضبط الامن وبين الشارع الغاضب بحق وبحزن، هذه الايام التي لم تشهد أي خطاب مسؤول يعتمد عليه لإيجاد حلول لهذا الحدث من أي جهة. 

 

فالقضية التي تم استغلالها من قبل عدة جهات سياسية وغير سياسية لتبادل الاتهامات وتجاذب المصالح، تعبّر بالدرجة الأولى عن غياب خطاب حكومي عام فاعل بهذا السياق وعن فشل آليات التواصل وفهم مكامن الخلل منذ عام ٢٠٠٥ على الأقل حينَ حصلت أحداث شبيهة لنفس المُسببات ولغاية اليوم أي أن الفترة الزمنية الماضية لم يتم استخدامها كما يجب لإيجاد حلول جذرية تقي المجتمع الفرنسي من هذه التبعات وهو المجتمع المتنوع بدرجة عالية والذي يتطلب، كأي مجتمع يضم أطياف اثنية وثقافية متعددة، يتطلب سياسة تناغم عالية المستوى دون ثغرات، لكن ما يظهر اليوم هو افتقاد الفهم والإرادة الكافية ورد الفعل المناسب بمواجهة حدث بهذه الأهمية.

 

فعلينا أن لا نتجاوز بأي حال من الأحوال الجملة العدائية التي وجهها الشرطي للضحية والتي كان لها بالتأكيد وقع سلبي كبير للغاية على الشاب وقد تكون المُسبب لكافة التبعات التي جرت، فهذا الاعتداء الكلامي بحد ذاته جريمة لا تُغتفر وهو، من وجهة نظري، ليس وليد لحظة الحدث بل هو تراكم لحالة من التصعيد والتحفيز شبه الدائم في هذه الأطر والتي تجري سواء على خلفية الاختلافات الثقافية الدينية أو الاثنية أو أي اختلافات أخرى، فما الذي سيدفع شرطياً يُفترض به حماية القانون بالبلاد لتهديد مواطن بالقتل دون وجود أي موجب لذلك لو لم يكن تحت تأثير الحكم المُسبق وتصرفاته بالتالي لم تعتمد على الحدث بحد ذاته أو على المُخالفة المرورية بقدر ما اعتمدت على التحريض المجتمعي ضد فئة من أبنائه وهنا ما يتوجب العمل عليه لاستدراك التواصل المُتضائل مُقابل الخطاب التحريضي التخريبي الذي لا يخدم المجتمع بأي حال من الأحوال، ولعل ذلك يقودنا الى عدم ظهور أي تأثير إيجابي لمنظمات المجتمع المدني الفرنسية والتي عادة ما تتكل عليها الحكومة لتأدية مهمة الجسور مع الشارع وهي تزيد عن مليون ونصف منظمة، والتي بدت بدورها تحت تأثير الاستقطاب المتزايد في هذا السياق. 

 

ودون أن نحصر الأمر بفرنسا، ففي ظل أدوات الاعلام البديل الهائل التي وفرتها التقانات الحديثة فما يحصل في أي مكان بالعالم من أحداث عنصرية او تحفيزية يؤثر بشكل مباشر على الجاليات التي يطالها الحدث في كافة الدول، ولا بد أن مشاهد قوارب اللجوء الغارقة على شواطئ القارة الأوروبية دون مُعين أو مشاهد الإساءة للأديان على خلفيات دينية والتي ظهرت مراراً من مواطنين من دولة السويد، أو مشاهد القمع الوحشي التي شهدها الشارع العربي على خلفية ثورات الشعوب المُطالبة بحقوقها المشروعة، كالشعب السوري وغيره،  كان لها أثر كبير فيما نراه اليوم من تداعيات يتسبب بها الظلم تحت أي مُسمى، والذي أصبح أثر عالمي دون حدود، فمشهد حي التضامن في سوريا والذي دار العالم وشهِد على ما يتعرض له شعب مسالمٌ من أهوال يعتبر لوحده درساً يغير قواعد الحوكمة العالمية برمتها.

 

فكما يتوجب التذكير مراراً وتكراراً، لم يكن أي انسان ليترك بلده وأرضه ان كانت تنعم بشروط الحياة السوية لكن فرض النظم القمعية على الشعوب لعقود طويلة، وتصنيع الحروب والصراعات كسوق لتفريغ السلاح والمرابح،  واهانة التقاليد والثقافات المحلية والسعي لاندثارها بمقابل الترويج لنموذج واحد، وعدم احترام التنوع الإنساني الطبيعي وعدم التعامل بندية بين الشعوب، كل تلك عوامل تدفع لتغيير حتمي للواقع الكارثي الذي به العالم اليوم، وليس حدث رحيل الشاب نائل الا واحد بين آلاف يومية تضيء على انحراف لا مثيل له يسير بالإنسانية بعيداً عن تطورها المنشود والذي لن يتم الا بنهوض الشعوب كافة، على نقيض ما يعتقده الجاهلون الساعون للنهوض ببلد ودفن بلاد أخرى، أو دعم مدينة واهمال مدن أخرى، أو تطوير حي وتناسي أحياء أخرى، أو دعم فئة وتهميش فئات أخرى، أو مدح ثقافة وذم أخرى، فسياسة التمييز هذه ليست الا سياسة الفاشلين بفهم الحياة وهي، كما نشهد جميعنا في عصر الحقيقة هذا، باهظة الثمن.

 

ختاماً، كلمة سلام ورحمة لروح نائل الشاب، ولأرواح الراحلين بظلم في كل مكان من العالم، وكلمة قوة وثبات لجميع الساعين للتغيير الإنساني السوي، الذي لا تتصارع به الحضارات بل تتكامل ولتسقط نظريات وفرضيات سياسية وضعها مختلون يفترضون الصراع سبيلاً واهانة البشر وسيلة بينما هي هوة انتهاء الإنسانية وحسب.