تتالي الازمات السياسية على خلفيات بيئية.
د. سميرة مبيض
٢٥ شباط ٢٠٢٤
لم يكن خطاب الرئيس الفرنسي خلال المعرض الزراعي، والذي يُقام بشكل دوري في فرنسا، مُقنعاً لكثير من المزارعين الغاضبين والذين يقودون حراكاً اجتماعياً وسياسي لمواجهة تردي أوضاعهم نتيجة السياسات المجحفة بحقهم والتي يبدو أنها تتراكم دون حلول جذرية، وبشكل خاص منها استيراد محاصيل من مناطق بعيدة في حين أن بعض منتجاتهم تتكدس لعدم إمكانية التصريف وهو مثال نموذجي للمُسببات البيئية لهذه الازمات السياسية/ الاقتصادية في هذه الحقبة والتي لا تأخذها أي من حكومات العالم اليوم بعين الاعتبار، فعلى الرغم أن الاتحاد الأوروبي يطور قوانين بيئية عديدة لكنه لا يطبق سياسات بيئية، ولا زالت قوانين التجارة والاقتصاد والقرارات العسكرية منفصلة عن مفهوم الادارة البيئية مما يخلق تناقضاً واضحاً تتجلى منعكساته في حركات احتجاجات عديدة منها حركة السترات الصفراء ومنها حركة المزارعون الغاضبون والتي تتفاعل في عدة دول أوروبية بمسميات مختلفة.
يجدر في هذا السياق التنويه الى أن العامل الأبرز في هذا الخلل يكمن في سياق سياسي أوسع، وبشكل خاص فيما مآل انحراف عالمي بمفاهيم التيارات السياسية اليسارية واليمينية، والتي لم تعد تؤثر في الحراك الساعي للعدالة الاجتماعية من جهة ولا في حراك المُحافظين من جهة أخرى، ولا تمتلك أي منها مرجعيات بيئية تواجه معضلات هذه الحقبة، بل باتت أحزابها متمترسة في سياقات ضيقة للغاية تحجرت خلال العقود الماضية، وأصبحت السلوكيات السياسية أشبه بمواجهة حربية بين معسكرين يرفضان التعاون أو التكامل بل أدى ذلك لاغتيال المفاهيم الرئيسية لهذه التيارات والتي لا نرى أي منعكس لمضامينها المؤسسة في أي منطقة من العالم اليوم.
يكمن العامل الثاني لهذا الخلل لعدم الوصول لحالة التوازن بين مفاهيم العولمة ومفاهيم الإدارة المحلية، وهذا التوازن هو أهم ركيزة للسياسات البيئية، فبالعودة لنموذج المواجهة السياسية في فرنسا والمتعلقة بهذه الأطر فقد صرح الرئيس الفرنسي بما معناه أنه يعتبر إغلاق الحدود كمشروع لإفقار البلاد، لكن في المقابل افقار كثير من المواطنين الفرنسيين اليوم تحمل مسؤوليته سياسات غير متوازنة بين الاقتصاد الداخلي والخارجي وذلك ما طُرح من قبل المحتجين، فالعولمة ما لم تقم على أسس استقرار داخلي للبلاد فهي ليست ذو أهمية بالنسبة للمتضررين، وهنا يأتي دور بناء سياسات بيئية عالمية تحترم الحياة، بكافة أوجهها وهو المحور الذي يتطلب العمل والتطوير من قبل كافة الدول والجهات العالمية، وفرنسا كبلد يمتلك تاريخاً هاماً من تبني حرية التعبير وتطوير السياسات يُفترض أن يشكل احدى المساحات الهامة في هذه الأطر، لكن ذلك لم يظهر خلال الازمات السياسية ذات الخلفية البيئية التي ألمّت بالمجتمع، والتي لا زال تناولها يتم بعيداً عن منظور السياسات البيئية رغم أنها باتت اطاراً سياسياً تفرضه احتياجات الواقع العالمي وتدفع بتسارع نحو بناء مفاهيمه النظرية والعملية في جميع انحاء العالم دون استثناء، فالأزمات السياسية اليوم بيئية في غالبها، والصراعات المسلحة كذلك ذات بعد بيئي وعليه فان معالجة هذه الازمات لا يمكن أن تتجاوز هذا المنظور محلياً وعالمياً.
ويجدر التنويه ختاماً بأن تداعيات عديدة على المستوى العالمي تدحض النظرية القائلة بأن المتضرر من تأثيرات التغيرات المناخية هي فقط الدول المُسماة الدول النامية، وليبرز جلياً أن التبعات هي تبعات عالمية تنعكس في كل دولة وفق الظروف والشروط الداخلية والإقليمية، بشكل متفاوت بين الدول ربما، لكن ذلك لا يعني أي تفاضلية في خطورة التأثيرات وفي ضرورة إيجاد حلول لها، مما يزيد من أهمية قراءة التحديات العالمية الجديدة، علمية كانت ام سياسية أم ثقافية، فهي بمجملها تتقدم وتتطلب تقدماً موازياً في المنهجية وفي التحليل والتصدي.
ولعل فشل سياسات عالمية طويلة الأمد للوصول للسلام في الشرق الأوسط بل واندلاع صراعات مستجدة في مناطق عدة من العالم تعد نموذجاً أوسع مما سبق للحث على أهمية تحديث المفاهيم والسُبل المتوائمة مع احتياجات شعوب العالم، وسبل بناء السلام وبناء التنمية وتعزيز المساواة والندية بين مختلف أطر التنوع والتي تعتبر الشرط الأساسي لبناء نموذج العولمة العادل الذي يحترم الحياة بتنوعها ولا يتبنى التغول ولا التدمير، وتلك هي معادلة التوازن في السياسات البيئية بعيداً عن أي انحرافات، وهي غائبة في عموم التوجهات العالمية، لذلك نشهد تعاظم التأثيرات السلبية الى ان تحل مفاهيم سياسية حديثة تبنى على ارث انساني متكامل، عقلاني صلب وثابت يتطلب تعاون كافة الثقافات الناهضة بالبشرية دون استثناء.