الربعية الأولى من القرن الحادي والعشرين، أوان اعلان الفشل السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
د. سميرة مبيض
١٠ نوفمبر تشرين الثاني ٢٠٢٣
لا بد لنا من وقفة جديّة حين نقرأ الجدل القائم اليوم حول من سيستلم إدارة قطاع غزة، بعد أن ينتهي الصدام العسكري المتفاقم مؤخراً بين الحكومة الإسرائيلية وحركة المقاومة الإسلامية، حيث يبدو هذا الجدل قادماً من خارج أروقة السياسة برمتّها، وبعيداً كل البعد عن حركية المجتمعات البشرية الطبيعية، بل أنه لا يمت بصلة لفضاءات تنمية ولا لقوانين وشرائع انسانية، ورغم الجهود المبذولة ليظهر كمساعٍ لضمان الأمن في المنطقة لكنه في الواقع تكرارٌ للفشل وأقرب لجدل السمسرة حول قطعة أرض تسعى للتبرع بها جهة لا تمتلكها أساساً، دون أن ننسى أن الصفقة التي تدعو لتوظيف حكومات تتولى الوصاية على هذه المنطقة، تتضمن ما يقابلها من مساعدات مالية ووعود وردية، ورغم ذلك، لا تجد شارٍ، وذلك أمر حسن للغاية فلا تُعالج كارثة بأخرى، ولا يتم تبني مسار خاتمته غايات مؤقتة ويُغيّب به هدف الأمن المُستدام.
لكن هل مثل هذا الموقف السياسي حديثٌ فعلاً، أم هو تكرار لتقسيم المنطقة القائم منذ انتهاء الحروب العالمية، لنُضيء من جديد اذاٌ على تخوم سوريا الشاسعة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وما بينهم، والتي، عمداً، فُتتت وعوملت كأرض مشاع ووضعت تحت الوصاية، وصاية تركية، وصاية أردنية، وصايات عربية وخليجية وإقليمية ودولية شرقية وغربية شمالية وجنوبية..الخ وطُبقت لأجل ذلك آلية تهجير السكان من أراضيهم وحرمانهم من مواردهم وإلحاق الضرر بهم لعقود طويلة، لن تُمحى، وفُرضت عليهم نُظم تنتهك الحقوق وتضطهد العُقلاء، ليهجّروا من جديد مرات ومرات، دون التنبّه لحقيقة أن الأوطان ملك لأبنائها وبناتها طال الزمن أم قصر، غابوا عنها أم حضروا، ودون الأخذ بعين الاعتبار لما خلفّه نهج الأرض المشاع من تداعيات أمنية على كافة الصعد.
ولنا في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين اليوم نموذجاً واضحاً، وليس مواطنو هذه الدول هم من عانوا فحسب فحتى المواطنين الذين قطنوا إسرائيل منذ عقود، عرباً وعبرانيين وغيرهم، يهوداً ومسيحيين ومسلمين وسواهم، من أهل الأرض ذاتها أو ممن وفدوا اليها لمختلف الدوافع، فقد لبثوا جميعهم في ظل القلق ومتابعة أحداث التصعيد العسكري وترقب تداعياته بشكل مستمر ولغاية الأمس القريب.
فالمنظور البائد اذاً، والقائم على العنف المسلح بكافة أوجهه وما نجم عنه من سياسات كان خاطئاً بالمطلق.
وتبدو المؤشرات جميعها بيّنة الى أن اعلان الفشل السياسي في منطقة الشرق الأوسط قد آن، ونحن بالربعية الأولى من القرن الحادي والعشرين، بعد فرصة مئة عام لم تُحقق بها هذه السياسات الأمن والتنمية المُستدامين، فلمَ لا نقطع الطريق على محاولات نسخ الأدوات الفاشلة للمنظومة القديمة من منطقة لأخرى، فكما نشهد في الشمال السوري محاولات لتكرار سيناريو جنوبها بفعل لاعبين تحت الطلب من تشكيلات سياسية وفصائل مسلحة وشخوص مُرتهنة، وهدفهم اندثار سوريا، لكن ذلك لن يحصل، فاليوم ليس الأمس وحراك شعوب المنطقة لم ينته بل هو في نضج اكثر حكمة وعقلانية، وفي خضام هذه التغييرات الجذرية بقيت الهوية السورية قائمة بتعدديتها لغاية اليوم ولم ولن تنجح أي من محاولات محيها، بل هي الرافعة والبوصلة للمنظور الجديد للمشرق والمتضمن لمراجعة الحدود وشكل النُظم القائمة ضمنه وطُرق الحوكمة في بلدانه والتي باتت ضرورة حيوية للمنطقة وللعالم أجمع.
والأكيد أن ذلك لن يكون بإعادة تدوير منظومة شمولية، بل هو بنقيضها، بما حمله المتضررون من السوريين والسوريات من قيم التمدن بمواجهة الهمجية بجميع أشكالها ومسمياتها، هو من ارثنا الحضاري وحسب، رغم ثقله من ارث في هذا العصر العائم على التفاهات، لكنه ثقل الحياة ذاتها بالثقة والاطمئنان للثبات، تردفنا أين ما سار بنا الأفق، ولنا بذلك حق التقدُّم، برفع راية تحييد سوريا عن الصراعات الهمجية، جميعها، وبتبني منظومة حوكمة حديثة، ابنة هذا العصر وغده وتدرك أدواته وتحسن تفعيلها، لنكون، كما نحن، جزءاً لا يتجزأ في مسار تقدم الإنسانية ومنها.