لا نسيان ولا صمت، فهي قضية شعب بالحياة.
الخامس من كانون الثاني، يناير ٢٠٢٤
د. سميرة مبيض
صمت على مواقع تشكيلات المُعارضة تجاه تصريحات وزير الخارجية التركي، أو بالأحرى ليس صمتاً مطبقاً فهناك معايدات وتهاني وهناك تنديد بالقصف، وهناك تنديد بعدم اتخاذ إجراءات حاسمة من المجتمع الدولي تجاه جرائم بشار الاسد، لكن وللمفارقة الغريبة لا إشارة تُذكر للاستخفاف المريع الذي ظهر بتصريحات هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، تجاه القضية السورية وتجاه الانتهاكات الهائلة بحق الشعب السوري أرضاً وشعباً، وهو يدعو صراحة إلى ما سماه " نسيان الكراهية بين الجانبين" قاصداً المعارضة ومنظومة بشار الاسد حتى لا يُخال للقارئ أننا نتحدث عن سيناريو مسلسل تلفزيوني ما، بل هو فعلياً يستهزأ بدماء مئات الالوف من السوريين ومعاناة ومأساة الملايين منهم في كافة أنحاء العالم ليحول الانتهاكات التي ارتكبها الطرفان بحق الشعب السوري إلى رواية "كراهية " بين جانبين، لا بل ويزيد بالنُّصح ليدعو إلى " بيئة من الصمت " وفق ما يتم تداوله من تصريحاته، ففعلياً فكلا الجانبين وداعميهم ساعون للصمت على ما ارتكبا من انتهاكات بحق سوريا وأهلها، مما يفرض تساؤلاً مشروعاً عن ماهية الصمت المطلوب، الصمت عن قصف الشمال السوري كل يوم وعن ملايين السوريين المدنيين في تلك المناطق، أم عن الأطفال المحرومين من مدارسهم ورياضهم وابتسامتهم ودفأ بيوتهم، أم الصمت عن مساعي تركية لمحي الثقافة السورية من أقاليمنا الشمالية، أم عن العنصرية والكراهية التي يعاني منها اللاجئون، أم عن حقوق السوريين في أرضهم وأرض أجدادهم، أم عن المقايضات في مساعي تطبيع بين الحكومة التركية وبين مجرم حرب ارتكب اعتى الانتهاكات بحق شعبه، مستخدمين كأدوات شخوص بمسمى تشكيلات معارضة..الخ
مهما يكن، فعن هذه جميعا وسواها لن نصمت، كسوريات وسوريين، ولا نسيان سيلامس ذاكرتنا، لمَ، سيتساءل البعض، لأنها لم تعد قضية سياسية لتتدخل بها أي جهة، بل هي حق شعب سوريا وأهلها بالحياة، حقنا بالدفاع عن وجودنا مقابل التهديد القائم بالاندثار، وهو حقٌ حي مكتسب بالقدر والمصير والأرض والتاريخ لا يلغيه أحد ولا يزول ولا يمسه تقادم ولا نسيان.
وفي هذا السياق، تجدر الاشارة ايضاً الى أن هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، يدّعي في مواقع أخرى مناصرته لقضايا الشعوب، فنسمعه يقرّع الحكومة الاسرائيلية على ما ترتكبه من انتهاكات بحق الفلسطينيين ويظهر وكأنه يدافع عن المدنيين ممن يعانون هناك، وبالأخص عمّا سماه سرقة أراضيهم، وذلك أمر حسنٌ للغاية، فمُحاسبة الحكومة الاسرائيلية مطلبُ حق، وكذلك محاسبة منظومة بشار الاسد، وكذلك محاكمة كافة الأطراف التي انتهكت حقوق السوريين وحرمة أراضيهم، فلتكن اذاً جميع ملفات التهجير القسري على طاولة واحدة، لنضع الأقاليم الشمالية السورية، بعموم أراضيها ومواردها دون انتقاص في كفة الميزان، وليشهد فيها التراب والحجر والشجر والأحياء وجدران المنازل، عن انتهاكات تهجير وعنصرية بحق العرب، والكرد، والسريان وغيرهم، أقواماً وثقافات، عانوا لعقود ولم يُهادنوا على هويتهم ولم يتخلوا، فبالمكيال ذاته سنكيل، لنطالب بثبات بإنهاء حقبة المجازر والتهجير والهمجية على أرض نشأ منها وبها التمدن والتحضر، ومن تعاليمنا نستقي، فلا مصداقية لمن ينتقد الانتهاكات هنا وهناك طالما يرتكب ذات الجريمة.
من جهة أخرى، فان كانت أولوية تركيا هي الأمن في المنطقة، فهذا الأمن لا يمكن تحقيقه دون التغيير الجذري في سوريا، فما يزيد عن نصف الشعب السوري في الأقاليم الشمالية والجنوبية ومثلهم في دول المهجر يرفضون بقاء منظومة متهمة بارتكاب جرائم حرب سواء منظومة بشار الأسد أم المعارضة، يرفضون لينقذوا هويتهم ومستقبلهم من التقهقر والاندثار، فلا يفرض علينا أحد سيناريوهات كارثية قوامها صراع دائم هدفه تدمير الشعب السوري، ولتُكف يد أي طرف عن قضيتنا، فكل شعب مسؤول اليوم عن نفسه وأهله وأرضه وموارده، ونحن ساعون لتغيير بنّاء وآمن على صعيد المنطقة بمجملها ولكافة شعوبها مُحترمين جميع ثقافاتها وحضاراتها، على عكس مساعي التغول والحروب والاقتتال على حساب سوريا وأهلها، والغدُ ملكٌ لمن أحسن البناء، وتلك قاعدة ثابتة منذ نهضة الإنسانية ولن تخرج عنها أي من قواعد الحقبة القادمة، فستبقى سوريا قائمة اذاً طالما هناك صوت واحد يقول هذه هويتنا وهذه أرضنا وما زاد عن ذلك فهو زيف زائل.