في القضية السورية، هل تتأخر المواقف السياسية الفرنسية عن مذكرات القضاء

د. سميرة مبيض
١٩ تشرين الثاني، نوفمبر ٢٠٢٣
لم تكن مذكرة القضاء الفرنسي، والصادرة في منتصف تشرين الثاني من العام ٢٠٢٣ بتوقيف عددٍ من المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستخدام الاسلحة الكيميائية ومنهم بشار الأسد، بالحدث الاعتيادي، فهي مُذكّرة تعني ودون مواربة أنه لا يمكن لأي جهة التعامل في أي سياق كان مع من وردت أسماءهم في مذكرات التوقيف، وبصورة بديهية لا يمكن بحكم مُذكرة القضاء هذه لأي جهة فرنسية التعامل مع أي طرف يُمثل الجهات المُرتكبة لهذه الانتهاكات، سواء في سياق سياسي أو ديبلوماسي أو غيره، وذلك له كبير الأثر على ما يُعرف بالعملية السياسية السورية بشكل خاص والتي توقفت منذ عدة أعوام نتيجة مساعي فاشلة لتقاسم السلطة بين ما يُعرف بالتشكيلات المُعارضة المُنتجة من منظومة بشار الأسد وبين المنظومة البائدة ذاتها، بدعم من الجهات التي تردف كلا الطرفين وفق قواعد تقاسم النفوذ والسلطة العسكرية.
لكن ورغم صدور هذه المذكرة القضائية الواضحة والحاسمة الا أن بعض الجهات لا زالت تروّج لتطبيق عملية سياسية بين ما يُعرف بهيئة تفاوضٍ وائتلاف وحكومة مؤقتة وحواشيهم وبين منظومة بشار الأسد، بما يُناقض تماماً مُذكرة التوقيف القضائية الفرنسية.
ففي هذا السياق عقد ممثلون عن بعض الدول ومنها فرنسا ودول بالاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، وتركيا وقطر لقاء مع ممثلين عن التشكيلات المعارضة السورية للحث على المضي قُدماً في العملية السياسية وأتى ذلك بعد صدور المذكرة القضائية مباشرة، وكان من اللافت تناقض هدف وتصريحات هذا اللقاء مع المُنتج النهائي لمذكرة التوقيف القضائي، فقد ورد على سبيل المثال تصريح لممثلة الحكومة الفرنسية عن القضية السورية، وذلك في نشرة إخبارية على تلفزيون سوريا بتاريخ ١٨ تشرين الثاني، تذكر فيها أن هذه الجهات ستستمر باستراتيجتها حول العقوبات وعدم اعادة الاعمار قبل أن يكون هناك تطور وتنازلات من قبل النظام، وذلك يناقض مفهوم عدم الاعتراف بالنظام الذي يرأسه بشار الأسد، والذي تنص عليه بشكل مباشر مذكرة القضاء الفرنسي الآنفة الذكر.
فهل يعتبر هذا التناقض كعدم تناسق بين الجهات القضائية والجهات السياسية في فرنسا، أم هو اختلاف على كيفية التعامل مع القضية السورية بين هذه الجهات، ففي حين تُلغي المذكرة القضائية أي احتمالية ممكنة للعملية السياسية بشكلها القائم منذ سنوات على عملية تفاوض معطلة، يتوجه اللقاء السويسري الأخير نحو استمرارية الاستراتيجية القديمة بآليات لم تنفع في الماضي ولن تنفع اليوم أيضاً.
ولعله، من وجهة نظر تحقيق مطالب السوريين فإن المذكرة القضائية الفرنسية تعتبر هي الأجدى اليوم، فهي ترسل رسالة واضحة بأن لا جدوى من مثل هذه الاجتماعات المكررة والتي لا تمتلك الحل من جهة ولا تعترف بأنه من غير الممكن و من غير المحمود أساساً إعادة تدوير بشار الأسد أو التعويل على تشكيلات مُعارضة شبيهة به من جهة أخرى.
فمن قدِموا لهذا اللقاء مع ممثلي الدول جاؤوا اليه بعد لقائهم بفصائل مسلحة تتحرك وفق ايديولوجيات قد تدفع بها لاضطهاد وتهجّير المدنيين وقد شهدنا ارتكاب انتهاكات في مناطق سيطرة هذه التشكيلات لا تقل سوءاً عما جرى من انتهاكاتٍ أدانها القضاء الفرنسي.
ورغم معرفة الجميع أن مثل هذه اللقاءات لم ولن تثمر، لكن أوضح تعقيب عليها هو السؤال الذي ورد عبر تلفزيون سوريا ووجه لمن يُعرف برئيس هيئة التفاوض، حول ماهية الوعود التي حصلت عليها تشكيلات المُعارضة، وطبعاً لم يتنظر أحد اجابته، فالإجابة كانت في السؤال نفسه.

فعملية التفاوض الهرمة لم تتواجد يوماً بل كانت سياق تعطيل وتلاعب سياسي كشفت غطاءه ثورة السوريين وحدَّ منها وعيهم وتمسكهم بتغيير المسار الكارثي لبلادهم، فلعل الأجدى اليوم للجهات الدولية أن تدرك بدورها أن هذا المآل فاشل وليكفوا عن فرض أدواته الغير فاعلة، فالسوريون والسوريات يتمسكون بهويتهم وبأن تستقل أراضيهم وبأن تُبنى دولتهم الحديثة بأيديهم، وذلك يتحقق فقط عبر بدء مسار عملي ذو هدف واضح وجلي هو القطع مع المنظومة القديمة وتأسيس دستور جديد للدولة السورية قائم على احترام تنوعها، وهوية أهلها، وضمان أمنهم واستقرارهم كأولوية فوق أي اعتبار، وبذلك فقط يثبتُ المسار المتقدم والمتطور والذي لم يبنى يوماً الا بأدوات التحضر والمعرفة وليس بالعسكرة ومحاباة القتل والظلم، ولنا في ثورات الشعوب جميعها عبر التاريخ بوصلة ومنارة نحملها وتحملنا فما نحن الا بني وبنات هذا المسار الإنساني ولا حياد عنه